الثلاثاء 07 مايو 2024 - 05:56 مساءً - القاهرة

     

 

 

               

 

  أحدث الأخبار

 

 

  الأكثر قراءة

 
 
 

ما أسباب تراجع الأغنية

  ازمة صوت

  ازمة كلمة

  ازمة لحن

  غياب دور الدولة في تبني أصوات جادة


نتائج

 

 
 

الرئيسية ابداع "خلف الأكمة نساء " قصة : د. محمد إبراهيم طه

 

 
 

"خلف الأكمة نساء " قصة : د. محمد إبراهيم طه

  السبت 30 مارس 2019 11:11 مساءً   




 

كنت أول من اكتشف أن الامتحان من خارج المنهج،فبدأت الصياح، وتبعني آخرون، وتعجبت كيف يحشرون كل هذا العدد في خيمة واحدة،فجذبني جاري من اليمين، وهمسبأننا في الزحام يمكن أن "نساعد بعض"،وسألني:"مذاكر كويس؟"، فأومأت برأسي، فقال: "حلو"، وكان المراقبون قد أهدروا وقتا طويلا حتى وزعوا ورق الأسئلة، ولاح لي أن الوقت المتبقى لن يكفي للإجابة،وحين لم أجد سؤالا واحدا من المنهج، صحت مرة أخرى كيف لامتحانتحريري في "الزمالة الملكية في النساء والتوليد" أن نجيب فيه عن أسئلة تخص ساعات العمل، وأيام الأجازة، وصافي الدخل وساعات النوم، وآخر مرة ذهبت فيها إلى السينما، وأول علاقة وآخر قُبلة،فلم ينتبه لكلامي سوى زميلةببلوزة فوشيا، هزت رأسها كأنها تؤمِّن على كلامي بينما الجميع مشغولون بتفقد الأسئلة، فتذكرتُ أنني سبقتُها إلى هذا المقعد، فاعتراها الخجل وبحثتْ عن مقعد آخر، وقال جاري من اليمين: "سطَّر الورقة ومتسيبهاش فاضية..أكتب أي حاجة"، ففعلتُ وأنا غير مقتنع،ثم وجدته يميل على ورقتي وينقل إلى ورقته، ثم صار يتحقق مما ينقله ويناقشني:

ـ كيف لم تُقَبٍّل امرأة لعشر سنوات؟

ـ لم يكن لدي امرأة.

ـ وما علاقتك بالنساء؟

ـ وانت مالك؟

ـ جاوب على قدّ السؤال..آخر مرة نمت مع امرأة؟

استغربت جدا، ومع ذلك أجبت، فمال على أذني:

ـ تحتلم بالليل إذن؟

ـ هل من الضروري أن يحتلم من ليس لديه امرأة؟

ـ كيف ترى النساء إذن؟

ـ حلوين!

ـ حلوين في أي لقطة بالضبط؟

رنوتُ ببصري إلى ذات البلوزة الفوشيا وكتبتُ:حين يكنَّ رقيقاتٍ كقططٍبيض، ويرنون إلينا بحنو، ويتمسحن فينا بدفء، وتحيطهن هالة من الضوء،وتتكلم أعينهن بما لم تقله أفواههن، فنهرني جاري: "إلى متى تظل ساذجا؟"كان صوته عاليا حتى أن ذات البلوزة الفوشيا والبنطلون الجينز انتبهت، فرفعتُ حاجبيَّ من الدهشةوسألتُه كيف يتكلم بهذه الطريقة، فقال لأنهلا يحب الكلام المحلٍّق، وطلب أن أعطيه مثالاملموسا، فقلتُ: "ببساطة مثل هذه"، وأشرتُإلى مسبلة العينين التي كانت تخططللجلوس على مقعدي،تضع القلم بين شفتيها وتحدق في سقف الخيمة، وتتلفت باتجاهي كأنها تستدعي إجابة ملائمة عن أسئلة أراهافجة تثير حمرة خديها،فمصمص شفتيه وحملق فيما أكتب وسألني متعجبا كيف وصلتُإلى هذه السن ولم أجرب القنص؟ فقلت، "يا سيدى ملكش دعوة بيَّه" لم أعتد ذلك، ثم إنه لابد من التوافق وفترة من الألفة والتمهيد، فقال: لماذا تبتعد؟ السؤال عن القنص، وتجيب عن الحب،وحتى أضع حدا للنقاش، أخبرتُه أنني أكتب ما  أراه منطقيا، وطلبتُ منه أن يكتب ما يراه في ورقته ثم تفرغتُ للإجابة، وحسدتُ جاري على اليسار الذي ملأ دفتر إجابة وطلب آخر دون أن تحيد عيناه عن الورق، واستغربتُ من أين يأتي بكل هذا الكلام،وما إن دس جاري عينه في ورقتي حتى قال"باين عليك هتغرقنا" وأيده جاره عن اليمين قائلا "الكلام ده قديم جدا" فعاوده الذهول وسألني: ألم أفاجئ واحدة بقبلة أو حضن؟ قلت: لا..، قال:ولا مسكتَ يدها وحدقتَ في عينيها متجاوزا ردَّ الفعلِ الأول، الكاذب غالبا، ودخلتَ في الخطوات التالية حتى بلغت نهايةالطريق؟ قلتُ: لا، فوضع القلم على الورقة وقال: اسمع؛ أنت واحد من ثلاثة: خواف أو خجول أو لا تعرف شيئا عن النساء، حاولتُ أن أريه مؤهلاتي، فحال بيني وبين حقيبتي قائلا:هذه نقرة وتلك نقرة، فكتبتُ في الورقة أنني خجول،تأسرنيالمرأة ذات العيون الناعسة حتى لو كانت تصطنع الخجل، فتحول إلى معلم قائلا: وها أنت تدخل فيمأزق آخر، فالنساء قسمان لا ثالث لهما؛ قسمعلى الكافيهات ومقاعد الكورنيشوقاعات الدروس والدورات التخصصية، يلتقطن الصور الذاتية في أوضاع لطيفة ومثيرة، ويمضين أوقاتا جميلة في الثرثرة والضحك والتدخين قبل أن يتسربن فرادى أو جماعات إلى حجرات نوم وقد تحصنَّ بأقراص منع الحمل، وقسم سار خلف مقولات كاذبة انتهت بهن إلىالمكوث في البيت وإنجابالأولاد، ليعاودن بعد سنوات قليلة من الخديعةالانضمام إلى القسم الأول، ولعلمك،كلا القسمين لا يثير فضولهن رجل خجول فقد اكتفين بما ألصق بهن من خجل على مدار التاريخ.

لم أتفق مع هذا التحليل، ورنوتُببصري إلى ذات العينين الكحيلتين التي لم تكتب شيئا تقريبا أتأملها في حيرتها وهي تتلمس الإجابة جميلة، بوجنتينمتوردتينوشعر مرسل على عنق أبيض في البلوزة الفوشيا، فسألني إن كنت ما زلت متمسكا برأيي، فأومأت برأسي ولم أخبره بأنها بريئة و جميلة، ولا أن نظراتها باتجاهي هي ما يمنح اليوم جمالا رغموطأة الجو وغرابة الامتحان، وزحام الخيمة، فقال بصوت خافت إنها مصونة في بيت يشبه القصر، وتنتظرها بالخارج سيارة "بي إم"، قلت:"واضح"، فمال على أذني أكثر وهمس: لكنها ترنو إلى الجالس إلى يسارك يغط في عرقه من كثرة الكتابة،وتواعد شابا آخر يشبه محمد صلاح في السوق، قلت: رجال خونة، فقال:لا تخص طرفا بالخيانة.. للخيانة طرفان، سألته: لم يتحامل عليها بهذا الشكل؟ففتح على هاتفه معرض الصور، وتوقف أمام صورة، وقام بتكبيرها، وسألني: من هذه؟ قلت: هي، فذهب إلى صورة أخرى، وكانت عائدةمع زوجها من الأراضي المقدسة وهالة من النور تحيط بها، وقام بتقريب الصورة، وأشار إلى رجل اندس بين المهنئين، فرأيتُ الجالس عن يساري، وحرك إصبعه على الشاشة قائلا، وهذه صورةفتى السوق الذي صار سائقا لل "بي إم"،فقلت كفى، وملتُ على الورقة وظللت أكتب حتى انسحبتْمن أمامي، تشبثتُ بطرفها وقلتُ: أين الوقت الإضافي،فأخذ المراقب ملفاتي وأوراقي التي في الحقيبة وضمها إلى الورقة، وطلبصورة شمسية، فقلت ليس معي، فأشار لي بالنهوض والسير خلفه، فشعرت في عيني جاري اللجوج بالشماتة وهو يقول: "أحسن"، وجاري من اليسار ما زال يكتب فيما كنت أسير خلف المراقب الذيحذرني من دهسالنمل أو النباتات، أو الخروج عن السبيل، فصرت أنقل الخطو خلفه كبهلوان، ثم لاحظت أن قدميه لا تلمسان الطريق، ومع ذلك صعدت خلفه إلى جبلاية صغيرة، ثم وقفنا أمام حجرة ذات باب زجاجي، غاب بداخلها قليلا ثم خرج من دون الأوراقبظهره منحنيا وقال: "لما تسمع اسمك:ادخل"، فوقفتُ أتأمل ملامح المكان الذي أنا فيه فلم أصل إلى شيء.

***

بعد ساعة من الحديث المفصل أمام عضو يمين اللجنةعنعلاقات لم أجد فيها ما كنت أنشده تبينتُ أنمعلوماتي عن النساء تقع في المنطقة الحالمة،وبعدساعة أخرى من أسئلة متلاحقة  من عضو اليسارلاعلاقةلها من بعيد ولا من قريب بعلم النساء والتوليد وتنظيم الأسرة وعلاج العقم،لاحت لي أسباب التعاسة، فأفضيت إلى رئيس اللجنة أنني انتزعت وحدي من الامتحان التحريري مباشرة إلى الشفوي، ومع ذلك ما زلت مستعدا للإجابة عن أي سؤال في المنهج،فقال بصرامة: "أنت هنا لتسأل عن كل شيء"فأطرقت برأسي لأسفل،وسالت دموعي رغم أنني أجبت بطلاقة في الساعة الأخيرة عن العاصمة الإدارية والفتاح العليم وكاتدرائية ميلاد المسيح وبداية الأتوستراد إلى نهايته وعلاقته بالعروبة، وذكرت المحاور التي تربط الطريق الدائري بالدائري الإقليمي، والأوسطي، وأجبتُ عن ملحني أغنية "مالي بيه"، و"يا نسيم الفجر صبح" و"يا حلو متهدي"،وعن مؤلفي"سوف أحيا" و "مولاي إني ببابك"، و"نشيد بلادي"، وبررت لماذا أفضل محمد قنديل وفايزة ونجاة على كوكب الشرق، وأجبت عن آلة وترية يعشق نجيب محفوظ العزف عليها، لكنني لم أجد تفسيرا لاقتنائي العود عشر سنوات دون أن تلمسه أصابعي، ثم اكتشافي المفاجئ أنني أجيد العزف عليه،وظللت أتكلم حتى كفرئيس اللجنةعن الأسئلة وأخرج ساعة جيبه وحدق فيها  وهمس إلى زميليه: هل خلف الأكمة نساء؟ فأومئا برأسيهما، ففرد ذراعه إلى آخرها قائلا: "تفضل"، فرأيت بابا زجاجيا يشبه الباب الذي دخلت منه، كُتب عليه "العزل"، كان شفافا، يفتح في الاتجاهين، فلم أعرف إذا كان دخولا أم خروجا، لكن الإضاءة كانت أكثر خفوتا منها في الجهة الأخرى، والأرضية المفروشة بموكيت أقرب إلى أن تكون مكان عبادة، والجالسون والمتكئون والملقون على جنوبهم  كأنهم غافون بانتظار حافلة لن تمر أو صلاة لن يحين موعدها، تعثرتُ في بعضهم قبل أن تعتد عيني الإضاءة الخافتة، فانطلقت الموسيقى، وجذبني أحدهم من ثوبي وقال: "تعالى  جنب عمك محمود!" فجلست بين اثنين، ولم أتبين أيهما "عم محمود" وهيء إليّ أنني سأعرفه لو أنني أمعنت في التحديق إليهما، لكن انتباه الجميع بدا منصرفا باتجاه العود، ظننت أن من أجلسني يريدني في شيء، لكنني فهمت أنه لا يجب السير وأحدهم يغني، وبانت ملامح العازف في الركن وهو منكفئ على عوده ومستغرق في العزف، ورأيتمن ظننتهم نائمين يتطلعون عبر جدار شفاف إلى كائنات محلقة، وأرواح هائمة في فساتين بيضاء ، حدقت في ملامح عم محمود لأتذكر أين رأيته من قبل، فأشار إلى حمام يطير خلف الزجاج، وفتاة تغني وخلفها كورال، سألته: أين نحن؟ فلم يرد، وكان هائما مع الغناء، ولما أعدت السؤال، قال بضجر: وهيهمك بإيه؟ وبدا في تلك اللحظة بلحيته وشعره المنكوشغريب الأطوار، فاعتذرتُ له، وقلت: "فقط أريد أن أعرف"، فقال: التي تغني خلف الزجاج نجاة وليست عصمت عبد العليم، والذي يطير من خلفها حمام أبيض، والسماء الزرقاء التي خلفها ليست التي خلقها الله، وصاحب الكلمات التي تسمعها اسمه عبد الفتاح مصطفى، والذي يعزف أسفل الجدار على العود أحمد صدقي، استريحت؟ فهززت رأسي، فنفخ الهواء من فمه متأففاوهو يكلم نفسه: "ناقص يقوللي مين اللي بيردوا وراها؟ " وكان السؤال على لساني، لكنني خفت، فنظر نحوي وقال: ولا تخاف: الحلاج وبن عربي، وجمال عبد الناصر وسيدك بكتوت، وسيدك مرزوق، والحجاج، وإسحق نيوتن، وآينشتاين، وعبد الفتاح السيسي واللي كان قاعد جنبك وقام محمود الشريف! قلت:" وحضرتك مين؟"فتركنى ومال برأسه ليتطوح مترنما: وطول ما الحلو جنبي .. ع الدنيا السلااااااااام طاااااااير يا حمام.

***

لا أعرف كم مكثتُ أمام الغرفة ذات الباب الزجاجي منذ تركني المراقب، ولا متى  سمعتُ اسمي، فدخلتعلى رجليدس وجهه في إجابات التحريري ويتفقد أوراقي ومؤهلاتي الموثقة،  وحين انتبه إلى وجودي،رفع حاجبيه من الدهشة وسألني إن كنت أحمل الدكتوراة في أمراض النساء والتوليد، وعشرين عاما خبرة بمستشفيات وزارة الصحة، فأومأت برأسي، فسألني:

ـ إيه اللي جابك هنا؟

ـ عايز أسافر.

كان بلحيته البيضاء وشعره الفضي أقرب إلى "أنتوني كوين" في فيلم "عمر المختار"بقميص أبيض وصدرية سوداء وطاقية جوخ، عن يمينه وعن يساره رجلان ببدلة كاملة وطربوش، سألني أحدهما: كيف جئت إلى هنا؟،فلم أرد، واستقر بصري على ساعة الجيب المدلاة من صدرية الرئيس،ثم قلت إنني جئت من الخيمة خلف مراقب انتزعني من الامتحان التحريري، قال الثاني وكيف دخلت الخيمة، فقلت لا أذكر على وجه التحديد، لكنني كنت مساقا مع كثيرين حتى لاحت خيمة في صحراء فأوينا إليها، ولم نعلم بأنه امتحان إلا بعد الدخول،فقال الرئيس وكيف أتيت إلى الصحراء؟ فقلت لا أذكر سوى أننني كنت نائما،والأحلام التي كانت تأتي في بداية الشباب ملونة تباعدت، ثم صارت تأتي بلا موعد ولا ترتيب، ثم صارت عصية على التأويل، لا يبقى منها سوى نشيج في منتصف الليل يتحول مع الهزيع الأخير إلى نوبات عنيفة من البكاء، فعزفت عن الخروج، وامتنعتُ عن العمل، وأحكمت غلق الأبواب والنوافذ، وصمتُ عن الطعام إلا من الماء،وأجمع الأطباء والعرافون والروحانيون على خطورة النوم ووجهي إلى الحائط، وأوصوا بغلق باب الحمام وترك النور مضاء، لكنني أطفأتُ كل الأنوار، وأغمضتُ عينيجيدا حتى رأيت في الظلمة الدامسة رجلا بلحية بيضاء ووجه مضيء تتدلى من صدريته ساعة جيب، فسألني "زعلان ليه؟"، أدرت وجهي للحائط وضممتُ ركبتيّ إلى صدري ولم أرد، فأعاد السؤال مرة أخرى،فقلت "عايز أسافر" فنظر في ساعته وقال: "لسه بدري" فانطويت على نفسي أكثر وقلت: "لكنني مستعجل"، فقال وهل تملك المؤهلات؟" فأشرتُ إلى حقيبة أوراقي، ففتحها وظل يقرأ حتى انفتحت الصحراء، فأشار بيده إلى آخرها وقال: تفضل.. خلف الأكمة نساء!

 

أخبار اخرى فى القسم