الثلاثاء 14 مايو 2024 - 05:50 صباحاً - القاهرة

     

 

 

               

 

  أحدث الأخبار

 

 

  الأكثر قراءة

 
 
 

ما أسباب تراجع الأغنية

  ازمة صوت

  ازمة كلمة

  ازمة لحن

  غياب دور الدولة في تبني أصوات جادة


نتائج

 

 
 

الرئيسية ابداع "العباءة الزرقاء" قصة : د .عصام حسين عبدالرحمن

 

 
 

"العباءة الزرقاء" قصة : د .عصام حسين عبدالرحمن

  الأحد 07 أبريل 2019 01:32 مساءً   




 

دخلت المكتب فجأة، صرخت في وجهي: «أبويا بيموت حد يسعفه». انتفضتُ مسرعاً ناحية الاستقبال والطوارئ، لم أرفع عينيْ لحظة عن وجهها المستدير، لم يتغير، كما هو منذ عشرين عاماً، على رغم المفاجأة وارتفاع وتيرة القلق والتوتر، ظلت عيناها رائقتين ومريحتين وبشرة الجلد يانعة ولامعة وكأن سنوات العمر لم تبتلع منها شيئاً. وأنا أفحص المريض، ارتد لأذني وقع كلماتها بعد الصرخة: «أبويا بيموت». أتذكر ذلك اليوم جيداً.

شاهدتُ لحظة دفنه. لم أنصرف إلا بعد غلق عين المقبرة بالطوب والطين. لم يكن هناك إلا نفرٌ قليل. لا أحد في القرية يعرف من أين جاء. ظل يتردد على مقهى نصار كل ليلة. كان مدمناً للعب الورق. الوحيد الذي خرج منها رابحاً. مع تدفق الفلوس لم يعد أحد في القرية يسأل عن أصل عبد ربه. كان يستقدم آخر كل شهر الراقصات وفِرق الموسيقى والغناء. وكنتُ أزهد إلا في وجهها. يظل عالقاً بروحي، يجتاح معادلات الكيمياء العضوية ويتربع على حلقات البنزين وذرات الكربون في الثانوية العامة. كنتُ وحيداً مثلها في مقاعد بيتنا الريفي المجاور لبيت عبد ربه، لا يفصلهما غير سور متهالك من الطين. كجنيات الليل اقتحمت خلوتي، وجدتها أمامي؛ أماً وأختاً وحبيبة وعشيقة. كنتُ تحت عباءتها أستظل من حرائق القلق والتوتر، فأهدأ تماماً. تتفكك أمامي كل لوغاريتمات الكيمياء، فأرى أن الآتي أفضل.

وجهه شاحب، يتصبب عرقاً، بارد الأطراف، بالكاد يلقف هواء الغرفة. كل الشواهد تشير إلى إصابته بأزمة رئوية حادة نتيجة ارتفاع ضغط الدم. كان عليَّ أن أسحبه إلى وحدة العناية الفائقة. سمحتُ لها بمرافقته، ضارباً التعليمات بعرض الحائط. عيناي مثبتتان وبإصرار شديد على وجهها، تمسحه كالرادار. لم تظهر رقبتها كاملة. وددتُ لو أستظل بعباءتها الزرقاء حتى تهدأ روحي تماماً. سكن طائر الليل الحزين غرفتي. باعها عبد ربه للقادم مِن بلاد الذهب. سافرت معه إلى بعيد لا أعرفه. أصواتُ أجهزة مراقبة العلامات الحيوية تقطع إغفاءاتها المتتالية، وأمنيتي لا تنقطع حبالها، والعباءة الزرقاء تداوي أنيناً مكتوماً. مالت قليلاً برأسها، فانزاح غطاء الرأس. ظهرت الرقبة مِن بعيد كاملة، تزينها الحبة البنية فوق عظمة الترقوة اليمنى.

السماء تعلن سطوتها برقاً ورعداً وخوفاً. أتسمر في مكاني. تنتفض من على كرسيها خوفاً من برق نافذ، يخترق شباك غرفة العناية، مصحوباً برعد كطلقات المدافع المتتالية. العباءة الزرقاء تدنو منّي، ما زلتُ أود الاستظلال بها، ترتمي في صدري وتبكي، ترفع عينيها وتسألني: أبويا مش هيموت.

 

أخبار اخرى فى القسم