الأربعاء 15 مايو 2024 - 02:01 صباحاً - القاهرة

     

 

 

               

 

  أحدث الأخبار

 

 

  الأكثر قراءة

 
 
 

ما أسباب تراجع الأغنية

  ازمة صوت

  ازمة كلمة

  ازمة لحن

  غياب دور الدولة في تبني أصوات جادة


نتائج

 

 
 

الرئيسية ابداع الناقدة د.زينب العسال تكتب ..القصة القصيرة جداً بين الفن والانزياح((3)

 

 
 

الناقدة د.زينب العسال تكتب ..القصة القصيرة جداً بين الفن والانزياح((3)

  الأحد 24 نوفمبر 2019 06:20 مساءً   




تتخطى القصة القصيرة جداً لحظة الاقتناص التى يشير إليها جابر عصفور  ( 13) لتبلغ لحظة الديمومة لما لها من كثافة واكتناز بالدلالات. ستظل للقصة القصيرة جداً القدرة على اجتذاب المتلقى، حيث يمارس معها لعبة المتاهة: أى الطرق يسلك حتى يصل إلى المخرج الصحيح؟

ولعلى أشير إلى قول أندريس أموروس : " إن كل التجديد الذى حدث فى القصة القصيرة، يكمن أساساً فى البحث عن ذلك القارئ النشط، الذى يتعاون فى إعادة الإبداع. هذا هو هدف كل قراءة حقيقية.

محمد خضير هو صاحب المجموعة القصصية الشهيرة " 45 فهرنهايت " التى تتألف من لوحات ذات لغة مكثفة. خضير يكتب عن الإنسان العربى وله، يحرك شخصياته فى فضاء من الحزن الجليل، يجعلنا نواجه أنفسنا. نحن نتأمل حركة الشخصيات فننسبها إلى التهميش الذى تعانيه، لكن الأزمة الحقيقية التى تطرح نفسها هى أزمة الإنسان المعاصر.

فى مقدمة مجموعة " 45 فهرنهايت " يشير الفنان إلى درجة حرارة الغرفة التى يكتب فيها قصصه، غرفة كائنة فوق السطح، الذى يعد نقطة التقاء بين ما هو واقعى ( أرضى ) وما هو تخيلى ( سماوى ). اتخذ خضير من غرفته الواقعة بين " نارين " ارتفاع درجة الحرارة، والسخونة التى تصدر عن نار المطبخ أسفل الحجرة. يقول محمد خضير: " قد تعجبون كيف أستطيع الإمساك بالأشياء الساخنة فى هذه الغرفة؟. إنى أكتب ـ عادة ـ بمزاج بارد، والكلمات بين يدى ككرات ثلج، لكنها بصلابة الحديد. لذا أحتاج لتسويتها إلى سندان ومطرقة و" كور " متأجج على الدوام، وفى حين تتعطل الحواس بالحرارة الخانقة، فثمة حاسة واحدة لا تتأثر بأى طقس، أشبه بدينامو الذاكرة، أدعوها " الحاسة المغناطيسية " تنجذب إليها الأشياء، كما تنجذب المسامير إلى قطعة المغناطيس " (  14)

الخطايا ـ فى وعى الفنان ـ هى الأمر الوحيد الحى الذى لا يموت أبداً. إنها تحيا فى ركن من ذاكرتنا، تظل حية فى حياة الإنسان. أما الأيام الطيبة فهى خامدة. إن ذرات الغبار تمثل تلك الخطايا التى تراكمت، دون أن يبالى السارد بها، وإن ظلت عالقة بكل شيء حوله:  " الألم غبار الروح: هل قال أحد ذلك قبلى ؟".

منذ البداية يطرح بناء الحلم ذاته، حيث يظهر اللاوعى فيسرب كل ما يكبح فى اليقظة. تحت عنوان " هل تريدون أحلاماً أخرى "؟ يتحدد المكان، لكنه يأتى فى شكل متاهة، حيث تفتح الأبواب فجأة، تطل النساء والفتيات، ويتسرب إلى نفس الحالم نوع من الرغبة فى المعرفة. إنها معرفة محايدة جداً، فعين الكاميرا هى التى تلتقط، وتسجل.

محمد خضير مغرم ليس بالضوء، لكن بالظلام، بالعتمة. وقد أضاءت كلماته العتمة، عتمة الاستلاب والقهر كما فى قصة " منزل النساء" (  15). المكان عند خضير له فلسفته الخاصة، وهو محمّل بأزمات متفجرة، تجعل منه مكاناً أسطورياً سداه مشكلات الإنسان المعاصر.

ثمة تعريف أن الأسطورة هى الرحلة الفلسفية الأولى فى الفكر الإنسانى. ويجد البعض فى الأسطورة قصة تحكى بعض الأحداث العامة فى حياة البشر العاديين، بعد أن أدخلت عليها تعديلات، وصيغت فى قالب قصصى مشوق. قيمة استخدام الأسطورة أنها توظف لنقل عالمية التجربة الإنسانية. الأسطورة تحمل الرمز والمبالغة والتضخم، وجميعها إمكانات لا حصر لها.

أما التكثيف فهو يعنى إسقاط الحشو، والمواقف الهامشية، والزيادات اللفظية، فضلاً عن التوتر الذى ينبغى أن يتخلل القصة جميعاً.

إن أسطرة المكان والتكثيف هما أهم السمات الفارقة فى قصص محمد خضير القصيرة جداً. إنها  تعبر عن خصوصية للوقائع السردية، والأحداث التى تتماهى مع البوح السردى. إنه يخلق عالماً خاصاً، يمثل طبيعة الحياة فى مدينة البصرة، وهو ما يذكرنا بقرية ماكوندو فى إبداع ماركيث، والجنوب الأمريكى فى إبداع فوكنر.

تلك اللحظة من حياة العالم ( 1970) هى أولى مجموعات محمد جبريل القصصية. تعتمد قصة " تلك اللحظة" التى اختارها الفنان عنواناً لمجموعته على تعدد الأحداث فى زمن واحد، بلقطات وامضة فى أمكنة متعددة، الحدث يمثل إيقاعاً متنوعاً، أبعاده لحظات قاسية، ومربكة، تضاف إلى ما يشعر به البطل من قهر ويأس، فالقصة إذن يسهل انتسابها ـ ببساطة ـ إلى البدايات الباكرة فى القصة العربية القصيرة جداً.

يتفق حسين على محمد مع الآراء النقدية التى صنفت " مد الموج " لمحمد جبريل بأنها رواية، استلهم فيها الكتابة التراثية، بينما يرى ماهر شفيق فريد أنها سيرة ذاتية، لا تتخذ مساراً خطياً مضطرداً، وإنما تأتى على شكل لقطات من الحياة، وومضات تضيء ظلمة الوجود، وتأخذ ـ بلغة الفن التشكيلى ـ صورة تبقيعات نثرية. تضاف " مد الموج" إلى مجموعات قصصية أخرى، منها: حكايات وهوامش من حياة المبتلى، انفراجة الباب، موت قارع الأجراس ، وغيرها.

لقد عبرت العناوين عن الطرائق السردية التى اعتمدها الكاتب، وتصدرت الحكايات فعل الكينونة، وهيمنت الجملة الفعلية فى صيغة الماضى، وجاء فعل الكينونة بصيغة الجمع " كنا" كأيقونات سردية، تشير إلى وجود الراوى/ السارد، الممسك بخيوط انتظمت فيها التبقيعات، مشكلة بذلك صورة بانورامية كاشفة عن قناعات السارد وآماله، كما تتماهى الذات الساردة مع الآخرين" أنا هم الآخرون ـ شوبنهاور".

جبريل مفتون بالتراث العربى، ويحتفى بأشكال الأمثولة والطرفة والمثل والحكاية والحدوتة، وهو ما ينعكس بوضوح فى مجموعاته القصصية: ما لا نراه، فى الليل تتعدد الظلال، سوق العيد، وغيرها.

فى " ما لا نراه " ـ على سبيل المثال ـ ينكشف أمام المتلقى ما أضمره الفنان فى قصص المجموعة. التنبيه بوجود خطر ماثل أمامنا، لكننا لا نراه، وكأن   الجدة تتماهى مع زرقاء اليمامة.

أما " مد الموج " فلم يذكر الفنان الجنس الأدبى على غلاف المجموعة، بينما ذكره فى الغلاف الداخلى، دلالة على كسر التابو الأدبى، وعدم الانتساب إلى جنس أدبى بعينه، والتعبير عن توالى اللحظات بمد الموج، عملية المد والجزر، وما يتخلل ذلك من صور وامضة.

المد فى المعجم يقابل الجزر، والمد ـ هنا ـ يعنى ارتفاع ماء البحر على الشاطئ، ثم انحسارها، توالى الأمواج، ثم تراجعها، فى حالة دينامية، رافضة للسكون.

       المد عكس الجزر، الذى يعنى انحسار مياه المحيطات والبحار، فى ظاهرة علمية كونية. ثمة ـ فى المجموعة ـ قصص: الإشارة، لقاء، القاضى، لسعة الكرباج. وتعد قصة" محو الذاكرة" مفارقة لعنوان المجموعة " ما لا نراه " فإذا كان أنا السارد دائم الدعوة لكشف المستور عن أعيننا، فهذا الوعى الغائب الذى دائماً ما يحدث بفعل فاعل، غالباً ما يكون صاحب سطوة وسلطة عليا.

يخطو السرد القصصى عند جبريل نحو المفارقة، فالمحو يتقاطع مع المغزى، فى " ما لا نراه". فكرة التذكر تتمحور حولها غالبية قصص المجموعة، كما تتعدد أساليب التذكر. فالتذكر بالمشاهدة إدراك الملموس من خطر داهم، أو سلطة غاشمة، تمحو من الذاكرة عدواً يتربص بنا.

إن الأنا الساردة تتحد فى مواقف كثيرة مع الأنا الجمعية، ممثلة فى الشعب، الجماعة. الأنا الجمعية تقف أمام الأنا المضادة، ممثلة فى العدو الصهيونى تحديداً، اتساقاً مع مشروع الفنان المقاوم:

 " أغمض عينيه، وضغط بإصبعيه على جبهته، يحث الذاكرة، يستدعى الكلمات التى كان أعدها ليضمنها كلماته، يثق أنها كلمات مهمة، تضع التاريخ فى إطاره الصحيح"..

       " اختفت كل الكلمات والصور والتواريخ، أجاد ترتيبها، يعرضها فيقنع الحضور، حتى ما قد يثيره السلطان ـ أو أعوانه ـ من أسئلة"..

 إنها أسئلة الهوية والحرية والعدالة الاجتماعية، والتفانى فى حب الوطن، والدفاع عنه. إن الذات الساردة مهددة من قبل الحاكم بالطرد من ذاكرة الوطن، أو بالمحو من التاريخ.

يعد محمد المخزنجى من أهم كتاب القصة القصيرة جداً، ينتمى إلى جيل السبعينيات من القرن الفائت. عمل المخزنجى بالطب، والطب النفسى بخاصة، وهو ما أفاد منه فى إبداعاته القصصية، فقد جاء العديد من قصصه فى منطقة وسط بين التقرير الصحفى والقصة. ولعل تعدد الرحلات الاستكشافية التى كلف بها المبدع من مجلة " العربى " الكويتية كان سبباً فى عنايته بهذا اللون الأدبى، بحيث تبدو قصصه مغايرة لما قدمه إحسان عبد القدوس فى المجال نفسه. ذلك لأن المخزنجى ينطلق من منطقة الفن، ويعتمد على بلورة الواقع جمالياً، وليس نقله كما هو، كما الأمر فى قصص عبد القدوس التى تنتمى إلى التحقيق الصحفى. الدراما عند المخزنجى تعلو فوق كل شيء، واللحظة الفارقة بين الحياة والموت هى ما اقتنصه الفنان فى " غرق جزيرة الموت "، وهو ما يبين فى المزج بين التقرير الصحفى والقصة القصيرة، كما هو الحال فى " سفر الشجر" الذى يرى الفنان أنه متتالية قصصية، فالراوى واحد، والقصص قصيرة جداً، وتغلب عليها الشاعرية. وقد وفق الكاتب فى استخدام هذا الشكل الملائم للرحل، فما يبقى فى الرحلة هو ما يعلق فى الذاكرة، وهو خلاصة هذه التجربة التى عاشها الفنان، ممثلة فى سفره إلى بيروت.

واللافت أن محمد المخزنجى مغرم بشدة بفكرة الانزياح فى الشكل، والأسلوب السردى. فهو يستلهم صوت التلاوة للسورة القرآنية، فينتفى وجود الفواصل وعلامات الترقيم، حيث يتدفق الصوت مؤدياً للمعنى الذى نزلت من أجله السور. يبدو هذا واضحاً فى " سفر الشجر".

أما مجموعة " أوتار الماء " فيغلب عليها الطابع العلمى. الثقافة العلمية أحد المكونات والروافد المعرفية عند المخزنجى، فالعلم ليس ترفاً، لكنه عماد صلب فى الفن القصصى. يقول الفنان: " أصبح العلم منهلاً أساسياً وموضوعاً لا يمكن إغفاله عند الحديث عن الفن القصصى. إن الدهشة التى تنبثق من الاكتشاف والمعرفة العلمية تتساوى الآن مع الدهشة التى تشع من الفن القصصى.

 

أخبار اخرى فى القسم