|
أحدث الأخبار |
|
|
|
|
الأكثر قراءة |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
الرئيسية
ابداع
أولاد شـــــوارع... أولاد..قصة طنطاوي عبد الحميد
|
|
|
أولاد شـــــوارع... أولاد..قصة طنطاوي عبد الحميد |
الجمعة 13 نوفمبر 2020 11:49 مساءً
|
|
|
جلس محزونا ، ألقى بجسده فوق أحد المقاعد بقاعة الاستقبال وسط أحزانه تدور عيناه في أرجاء المكان ، تستطلع حتى الجدران والنوافذ والأرضيات ،ينظر للممرضات الغاديات والرائحات يتأمل رواد المكان ويشعر بأنهم من طينة أخرى ، تحركت أمامه ، ألهبت مشاعره بجسدها الغض وساقيها الملفوفتين ، تمنى أن يتحدث إليها ، مجرد حديث ، ألقى برأسه للخلف ، هجمت عليه الأفكار والأماني المكبلة ، عنف نفسه وفكره الذي ذهب ، تذكر أبيه الذي يرقد في حجرة العناية المركزة منذ ثلاثة أيام ، اقتربت منه الممرضة التي هام بها لتوه ، وقفت أمامه بلباسها الأبيض الملائكي القصير ، مالت عليه وبلغة عربية ركيكة ، همست في أذنه أن أباه قد فارق الحياة ، هم أن يصرخ ، وضعت يدها على فمه ، بين أحزانه وشفاهه المذمومة قسرا قبل راحة يدها ، سحبت يدها ونظرت إليه بحدة ، أطرق إلي الأرض ، اهتز جسده بقوة ، انهمرت الدموع من عينيه ، ربتت علي كتفه ، نظر إليها من جديد ، أشارت عليه أن يأتي خلفها ، في حجرة وثيرة ، طالبوه بالجلوس ، استقدموا له كوبا من عصير الليمون المثلج ، نظر إليها ، شجعته وطلبت منه أن يشرب ، سحب رشفة خفيفة ، امتزج العصير بمرارة حلقه ، شعر بسريان الخليط في أمعائه ، ارتجت معدته بشدة ، طالبوه بمواصلة الشرب ، أعلنوا عن المبلغ المفروض أن يدفعه حتى يتم الخروج بالجثة من المستشفي الاستثماري ، لم يدر بنفسه ، ماتت الكلمات في حلقه بعد صمت تحدث ، قص عليهم بمرارة ، السيارة صدمته وهو بجوار المستشفى، هربت ، والمرور في تلك الساعة صعبا للغاية ، حتى تصل سيارة الإسعاف قد يفارق الحياة ، تجمع البشر حوله وصرخوا بأن الرجل سيلاقى حتفه ، ساعدوه وحملوه فوق أعناقهم وأدخلوه للمستشفى ، قصوا عليه كم تكلف علاجه لثلاثة أيام متتالية ، كمية الدماء التي أخذها ...الأطباء وأجورهم ، مبالغ يسمع عنها في المسلسلات التليفزيونية فحسب ، ماذا يفعل ؟ أقسم لهم أنه لايملك أي مال ، إنهما لا يملكان من الدنيا شيئا ، مسكنهما عبارة عن حجرة وحيدة ، يسعيان للعمل يوميا ، ليس لهما مصدر رزق ثابت ، حجرتهما في شقة من أربع حجرات ، كل أسرة في حجرة ، دورة مياه واحدة ، منطقة عشوائية لايسمعون عنها ، وقليل من الأثاث ، قص عليهم باستفاضة، خرجوا ، بقى هو وصاحب المقام الرفيع ، اهتز بكرسيه يمينا وشمالا ، أشعل سيجارة ، طالبه بحل لهذه القضية عليه أن يسرع أولا بإحضار المبلغ الذي اتفق عليه ، خفض من المبلغ خمسة آلاف جنيه ، يتمنى أن يضحك ، ود أن ينفجر فيه ، هل يسأله كم ثمن كأس عصير الليمون ، كل أمنياته أن يدفن الجثة ، كيف ؟! ، أطفأ سيجارته وثبت في كرسيه ، نظر للفتى وطالبه ببطاقته الشخصية ، لم يستخرجها بعد ، نظر إليه من جديد ، انقلب حال صاحب المقام الرفيع وتغيرت سحنته وأصبح أقرب لشيخ وقور ، راح يتحدث بالدين وفي الدين ، كان يواسيه ثم لا يلبث ويلقى باللائمة عليه ، يتجرد من أحاديثه السالفة ويرتدي معطف التقوى ، لم ينل الفتي أي قسطا من التعليم ، تعلم كتابة اسمه بالكاد، فلا يمتلك من الأحاديث أو المعارف ما يرد به عليه ، استشعر إنه أمام إمام وعالم كبير له باع في الدعوة ، اهتزت رأسه فحسب ، وافقه على حديثه ، فهذا لا يعلم من القرآن سوى النذر اليسير ، واصل صاحب المقام الرفيع الحديث ، يستمع ودموعه تواكب أحاديث الرجل ، تحدث عن الشاة التي لا يضيرها سلخها بعد ذبحها ، أخذ يقص عليه حكاية سيدنا عبد الله بن الزبير رضي الله عنه عندما حاصروه ، وكلمة أمه السيدة أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما ، تهتز رأسه وتخرج آهات متتالية مكتومة من صدره ، أخيرا وبعد عناء استطاع أن يفهم ما يرمى إليه الرجل من أقاصيصه ، يستطيع أن يكسب بضع آلاف من الجنيهات ولايسأل عن الجثة ، ذهبت دموعه وتوقف نبض قلبه لثوان ، ومضت عيناه بوميض غريب وركز بصره على الرجل ، استقام من جلسته ووقف منتصبا ووقف الرجل بدوره ، يطالبه بالهدوء والتريث والتفكير بجدية وإعمال العقل ، أدرك أن حديث الرجل يقول أن كلب علي قيد الحياة خير من أسد ميت ، استفاض الرجل في شرحه ، نبرات صوته ترتفع تارة وتهبط أخري وحديث يعاد، هو صامت كتمثال ، لم يتفوه بكلمة واحدة
أسرع بالخروج ، يمضى بلا هدف ، وطريق بلا عنوان
------------------
الساعة تقترب من الثانية صباحا ، الهدوء يعم المكان ، الرائحة المعتادة لروث البهائم والحمير التي وقفت أو نامت أمام البيوت ، كلاب اعتادت عليه ، فلم تزكم أنفه الرائحة ولم تنبح الكلاب ، دخل من الباب الرئيسي ، لا يسمع سوى شخير الريس بهنسي سائق العربة الكارو وحجرته تجاور حجرتهما ، تسلل في هدوء لدورة المياه وخلع ملابسه وفتح المياه فوق رأسه ، لم يدر كم من الوقت مضى ، خرج في حذر وهدوء ، صوت ينساب في لحظة عشق من الحجرة المجاورة لدورة المياه ، ترتفع الآهات النشوى ، منذ سنين كان يهيم بتلك الأحداث ، كان يسترق السمع ، أسرع لحجرته لمسكنه، ما كاد يغلق الباب ، طرقات خفيفة بدقات متعارف عليها فتح الباب بعد تردد لم يطل مداه ، فهو يعلم أنها لن تمضى ، إنها متأكدة من وجوده ، مجرد أن انفرج الباب ولجت بسرعة للداخل وأغلقت الباب خلفها ، كانت تقاربه سنا ، منذ وطأت قدماه هذا المكان وهى رفيقته ، هربا سويا ، سرقا معا ، حتى لحظات العشق الحقيقي تفجرت بينهما في آن واحد ، وهما يجلسان أمام التلفاز في ساعات السهرة ، يتبادلان النظرات ، يحاولان أن يقلدا ما يشاهدانه في طفولية لم تصل لهزة العشق وبلا معان حقيقية، حتى آتتهما الرعشة الممزوجة باللذة فعاشاها ، لم يك هناك ما يردعهما ، صارا علي نفس الدرب فأبيه الذي تبناه وأمها يعيشان على هذه الوتيرة دائما ، وهو صغير كان يبيت ليلته دائما معهم هي وأختها وأمهما ، كثيرا ما شاهد أمها وهى تتسلل لحجرته ، لم يهتما بالأمر كثيرا وكانا يتضاحكان ، وبدورهما تركا لهما الحبل على الغارب ، فالمرأة تدعى أنها هاربة من أهلها مع زوجها الذى مات مبكرا وترك طفلتيه ولم تتعد الكبرى ثلاث سنوات ، وهو يعلم أن الرجل كان وحيدا ، ويوما وجده نائما فوق السور الموازى للنيل ، وانقلب وهو نائم وكاد يغرق وانقذه الرجل واتخذه كأبن له ، وعاشا معا ، ولم يعرف له أب أو أم
أتت إليه وفي عينيها دعوة للقاء ، وفى عينيه دموع وفى حلقه غصة، رغم الضوء الخافت سمعت أنينه وآهاته ، سألته ـ أجابها ، ضربت فوق صدرها ، كتما صرخاتهما تعانقا وهما يبكيان ، امتزجت دموعهما ، اقتربت شفاهما ، مزيج من البكاء والدموع والرعشة والرعب والخوف ، اهتزا ، انتشيا ، عادا يمارسان البكاء أو العشق، تلاحقت الأنفاس ، اضطربت العواطف ، تداخلت الرؤا والأشياء ، اشتبكت الأنامل بقوة ، وبصيص من خوف وهروب من واقع، تحدث إليها وما كان من أمر صاحب المقام الرفيع ، أخذ يسب ويلعن ويصفه لها بأقذع الصفات ، يقص عليها عن المستشفى وما بها وكيف تخطف حتى جدرانها وأرضيتها بالأبصار ، تستمع إليه وتعاودها نوبة بكاء، ومجرد أن تسمع عن المبلغ المطلوب ، تبتعد ، تكاد تصرخ، تعود وتشاركه الحديث ، كيف يستطيعان جمع المبلغ ؟ هل يسرقان ؟ اعتادا السرقة ولكن سرقاتهما لاتتعد عمليات الخطف وأكبرها قيمته لاتزيد عن المئة جنيه ، وفى حال بيعها يأخذا ما يوازى ربع ثمنها فحسب ، لم يشتد عودهما بعد في مجال السرقة ، مازالا في طور الصبا والطفولة بكى بحسرة بالغة ، أخذت تربت على ظهره وتشاركه البكاء ، تحكى عن مآثر المرحوم هو يستطرد فى الحديث عن الرجل وكيف آواه وكيف عاش معه ، لايعرف له أبا أو أما سواه ، هو أيضا كان محروما من الأهل ، ولم يفكر يوما فى الزواج، كانت حياته موزعة بين البحث عن الرزق بصورة أو بأخرى، حلال أم حرام لم يفرق يوما بينهما أما المخدرات فكانت عادة يومية يمارسها طوال حياته ، ثلاثة عشر عاما منذ احتضنه، تبادلا القص والذكريات الجميلة والمريرة ، تصف حبها له كأبيها وحنوه الدائم عليها
صمت مريب ، بريق العيون رغم الضوء الخافت واضحا ، وفكرة نشبت أظافرها في عقل الفتاة التي لم تتجاوز السادسة عشرة ، سألته عن صاحب المقام الرفيع كم سيدفع ؟ نهرها ، دفعها وصفعها علي وجهها ، لم تأبه ، جابهته وما لبثت أن أمسكت يده وقبلت أنامله ، ألقى بجسده فوق الفراش ، اقتربت منه أكثر ، تربعت فوق صدره طالبته أن يعيد الفكر وماذا يفعلان ؟ وماذا يملكان ؟ لقد مات.
إن وزعت أجزائه ماذا سيضيره ؟ سيموت ، من ماتوا في الحرب، من غرقوا وأكلتهم الأسماك ، مع اشراقة الصباح ، انطلقا وصمما أن يكون سرا بينهما لا يعلمه سواهما ، ليطالبا بمبلغ أكبر ، لن يوافقا بسهولة ، يجب أن ترتفع القيمة
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|