الخميس 25 أبريل 2024 - 11:46 مساءً - القاهرة

     

 

 

               

 

  أحدث الأخبار

 

 

  الأكثر قراءة

 
 
 

ما أسباب تراجع الأغنية

  ازمة صوت

  ازمة كلمة

  ازمة لحن

  غياب دور الدولة في تبني أصوات جادة


نتائج

 

 
 

الرئيسية تقارير كمال العيادي الكينج يكتب عن التونسي الفرعوني بيرم الأول

 

 
 

كمال العيادي الكينج يكتب عن التونسي الفرعوني بيرم الأول

  الاثنين 10 يناير 2022 05:15 مساءً   




* (بيرم التونسي..عبقريّ تونسيّ، بلسان فرعونيّ) * حدّثني ثقاة ببار (ستِيلا) الشّعبيّ، بشارع طلعت حرب, أنّ (بيرم التّونسي) خرج ذات خميس من بار ستيلا وهو يترنّح, فرأى عربجيّا يجرّ عربة خُردواتٍ, فسأله ساهما: (- هوّ صحيح الهوَى غلاّبْ؟!..)….فردّ عليه العربجيّ المتجهّم ملوّحا بيمناه ومستعيذا من ترنّح بيرم فجر جمعة قائلا: ( - ماعرفشى أنا.... )…وفي المساء كان سؤاله وردّ العربجيّ مطلع قصيدة من أجمل ما غنّت أمّ كلثوم…(تجدون كلماتها، آخر المقال). فجر الخامس من يناير 1961, ودّعت مصر والعالم العربيّ, المبدع الفذ, محمود بيرم التونسي, أحد أهمّ الشعراء الشعبيين العصاميين العباقرة عبر كلّ العصور, ولم يكد يكمل سنته الثامنة والستين, حيث أنه كان من مواليد اليوم الرابع لشهر مارس 1893. وقد عاش محمود بيرم التونسي كامل طفولته الأولى في حيّ الأنفوشي بالسيّالة بمدينة الإسكندرية, حيث كان والده يعمل كموظف تونسي مُعار في مصر. وإلتحق في بداية طفولته بدروس القرآن بكتّاب سيدي الشيخ جاد الله الحق, ولكنه كان بطبعه ومنذ نعومة أظافره, نفورا من التلقين ويرفض أن يعامله أحد بقسوة أو بحدّة, أو يملي عليه كيف يجلس أو كيف يتصرف أو كيف يتحرّك, وكان الشيخ جاد الله, معروفا بشدّته وقسوته وطريقته الشديدة في تلقين التلامذة, في حين كان بيرم التونسي جهوري الصوت, لا يتكلّم إلا بصوت عال جداّ, كأغلب التوانسة, وكان صريحا ولا يداهن ولا يعرف الرّقة واللّين والمُداراة والمُهادنة, وهي صفات تؤدي بصاحبها دائما إلى النفور من المفتعلين وجوقة المرددين. فهرب منه بالطبع وانقطع بعد أشهر قليلة فقط عن الكتّاب, ممّا أضطر والده ان يُرسله إلى المعهد الديني الذي كان مقرّه مسجد سيدي المُرسي أبو العباّس. وبقى هناك حتى توفيّ والده, ليدير محل تجارة صغير كان لوالده, لكنه فشل بالطبع وأفلس منذ السّنة الأولى, لأنه كان حادّ الطباع وشديد التأذي والحساسيّة, ولم يكن يحسن المجاراة ولا النفاق ولا المكر. وكان عشقه للأدب لعنة طاردته حتى الممات, ولكنهّا أيضا لعنة, كتبت له صكّ الخلود الأبدي في ذاكرة ووجدان الشعب العربي والمصري. ويكفيه فخرا أنه رائد ومؤسس مدرسة الشعر العامي المكتوب في العالم العربي, وهو الأب الشرعي لكلّ من جاء بعده, جميعا وبدون استثناء, سواء في مصر أو في تونس والعالم العربي من شعراء العاميّة الأفذاذ الذين أغنوا وأضافوا للشعر العربي بلاغيا وإبلاغيا وجماليا وأنقذوا الشعر العربي بالتالي من بثوره وتقعّره وصناديقه المتخشبة. وكان محمود بيرم التونسي مبدعا بالسليقة, وهبه الله ذاكرة أشبه بالأساطير, مكّنته من حفظ واستيعاب كلّ ما تقع عليه عينه وما يقرأه, وبألمعيّة فذّة, كان يحوّل ملاحظاته في الحياة إلى نصوص فاتنة لا تملك أمامها غير الإنبهار بها والإعجاب الشديد بتخريجاتها وعمقها وبساطتها التي تغرف من زاوية شبه مستحيلة لا يمكن تقليدها أو استغلالها كعجينة ممكنة لنصوص اخرى. وهذا ما يشترك فيه كلّ عباقرة الأرض. البساطة والعمق وعدم أمكانية التطويع ولا السرقة منها. وبدأت إنطلاقته الفعلية الصاروخية, مباشرة بعد نشره لقصيدة (بائعة افجل) التي سلخ فيها جلدة المجلس البلدي السميكة الرثّة, وهاجم من خلالها بأسلوب بديع وعبارات نارية ساخرة, كلّ ممارساته, وخاصة فرضه الظالم للضرائب الباهضة وأثقال كاهل الشعب البسيط الطيّب المعدم. وفي سنة 1919, نجح بأعجوبة في إصدار مجلة أدبية ساخرة, سمّاها - المسلّة - التي سرعان ما أغلقت بالطبع, وكعادته مع أيّ مشروع, وما كان أكثر مشاريع بيرم التونسي الفاشلة, لأنّ المبدع الحقيقي لا ينجح أبدا في إدارة مشروع تجاري مُربح, وهذا قدر كلّ مبدع حقيقي فوق الأرض منذ بداية الكون, وحتى قبضه. فأصدر مجلّة (الخازوق) الناريّة بعد ذلك مباشرة, ومن عنوانها فقط, يمكن لنا أن ندرك أنها أغلقت أيضا بعد قليل. وعاد إلى الإفلاس والحاجة والضيق ونقص تموين الحشيش والبيرة. وبالتالي عاد أكثر حدّة وضراورة وشراسة في التعامل مع (البَنِي آدمين), ممن يشاركونه الشارع والمقهى ويتعاملونه معه ببله منغولي وكأنه مواطن عادي عليه أن يتكلّم بهمس ووشوشة ويجامل ويتملقّ مثلهم. وماكان لمثل بيرم التونسي العبقري أن يتكلّم بوشوشة النمامين ولا أن يتملقّ مثل الحلاقين ولا الموظفين الإعتباريين الذين يخشون طيلة حياتهم المُملّة من فقدان الإحساس بدفء خشب وجلد كراسيهم. واستمر على طريقته الساخرة المزعجة للسلطات القانعة الخانعة الظالمة, فنفي إلى بلده الأصلي تونس مباشرة بعد نشر مقالة هاجم فيها زوج الأميرة فوقيّة ابنة الملك فؤاد، ولكنه لم يطق العيش في تونس الغاطسة أيّامها في مستنقع التخلّف والتقعّر العثماني ورقابة الإستعمار الفرنسي الخانق, فسافر إلى فرنسا ليعمل حمّالاً في ميناء مرسيليا لمدة سنتين، وبعدها استطاع أن يزوّر جواز سفر, عاد به إلى مصر، ليواصل أزجاله النارية التي ينتقد فيها السلطة والاستعمار العثماني والإنجليزي على السواء، حتى ألقي عليه القبض مرة أخرى لتقوم السلطات بنفيه من جديد إلى فرنسا ويضطر أن يعمل هناك في شركة للصناعات الكيماوية ولكنه بالطبع يُفصل من عمله هذا أيضا بسبب تغيّبه المتواصل فيعيش حياة من الضّنك والجوع والحاجة ويواجه أياماً قاسية ملؤها الجوع والتشرد والحرمان سجلها بعبقرية في أزجاله وأشعاره وحادثة حرقه لقاموس اللغة العربية حتى يشويّ على ناره حبّة من البصل هي كلّ ما كان في مطبخه الفارغ البارد على الدوام ، ورغم قسوة ظروف الحياة التي وصلت حدّا عبثيا لا يطاق. فقد استمر في كتابة أزجاله وهو بعيد عن أرض وطنه, تونس ومصر, وكان يعبرّ ببساطة ونفاذ مرعب عن حالتهما تحت نير الإستعمار والحكم العثماني المتخلفّ الكريه. وفي عام 1932 يتم ترحيله من فرنسا إلى تونس لأن السلطات الفرنسية قامت بطرد كلّ الأجانب الذين لا يتمتعون بعمل قار ووثائق رسمية كاملة, فأخذ بيرم يتنقل بين لبنان وسوريا مرة هنا, ومرّة هناك, ولكن السلطات الإستعمارية الفرنسية قررت إبعاده عن سوريا لتستريح من أزجاله الساخرة واللاذعة إلى إحدى البلدان الأفريقية النائية ولكن القدر يعيد بيرم إلى مصر عندما كان في طريق المنفى لتقف الباخرة التي تُقلّه بميناء بورسعيد فيقف بيرم باكياً حزيناً وهو يرى مدينة بورسعيد من بعيد ، فيصادفه أحد الركّاب و يحكي له قصته فيعرض هذا الشخص الوطني الشهم عليه النزول في مدينة بورسعيد ، وبالفعل استطاع يهرّبه من السفينة الكريهة ليغوص بين الشعب والمقاهي في بورسعيد ويختفي لمدّة عن البوليس والمراقبه, حتى قدّم إلتماسا بواسطة أحد معارفه إلى الملك فاروق فعفى عنه وعيّنه مستكتبا في مؤسسة أخبار اليوم, ومنها تنقّل بين أغلب الصحف الكبرى مثل جريدة الجمهورية وجريدة المصري وغيرها, واستمرّ الوضع على هذه الوتيرة, حتى تمّ تقديمه عن طريق بعض الاصدقاء إلى الستّ أم كلثوم, التي تخاصم معها في البداية طبعا ورفض الكتابة لها وتغيير بعض عباراته كما اقترحت عليه, لكنّه وبطبيعة العباقرة الأفذاذ, انتبه سريعا أنّ أم كلثوم مثله, أحد آيات الله في ذلك الوقت العصيب, فعاد للكتابة لها وقبل تعديل بعض عباراته, لتتحسن أموره المادية ويتوفر على ما يكفي من حشيش وتبغ وشاي وأوراق وأقلام وبيرة ضرورية للكتابة في صقيع واقع بشع تحت استعمار مزدوج خانق وفقر وبؤس وحاجة واتساع روح جامحة حادّة لا يعجبها العجب العُجاب… وقد غنّت له الستّ العديد من الروائع الخالدة, وعندما توفي في الخامس من يناير 1961، كان بيرم قد ترك لأم كلثوم بعضاً من أشعاره، الاخرى التي إقترحها عليها ولم تغنها, ومن هذه الأشعار كانت قصيدة ( القلب يعشق كلّ جميل) التي تتناول موضوع الحبّ الإلهي، وتتغني بالسّلام الداخلي والصفاء الذي يتحقق بزيارة مكة المكرمة، وتنتهي الأغنية بمشهد يتخيل فيه الشاعر نفسه (وإن لم يقل ذلك) في الجنة، ويتمنى أن يكون مصير كل أحبابه مثل مصيره. لكن أم كلثوم, ولسبب ما, وما كان أكثر أسباب أم كلثوم وأسرارها, لم تغنِ هذه الأغنية حين عرضها عليها,، بل احتفظت بها حوالي عشر سنوات إلى أن قامت بتسليمها إلى رياض السنباطي لكي يقوم بتلحينها، وخلال تلك السنوات طرأ تغير مهمّ في حياة أم كلثوم تمثل في انضمام محمد عبد الوهاب إلى مجموعة الملحنين الذين يتعاملون معها، وما أحدثه من تغيير في زيادة عدد الآلات الموسيقية الحديثة، واتجاهه إلى التعبير أكثر من التطريب في الغناء، وكان السنباطي ممن شملهم هذا التأثير مع احتفاظه بأسلوبه الخاص الذي عرف به واشتهر عنه. وقام رياض السنباطي بتلحين هذه الأغنية الفذة اعتمادا على لحنٍ مرح خفيف يختلف عن أسلوب تلحين الأغاني الدينية التي اعتاد تلحينها بدءاً من قصائد “نهج البردة”، و”سلوا قلبي” عام 1946، والتي كان أسلوب تلحينها شبيهاً بالابتهالات الدينية. أما قفلة الأغنية فلحنها لا يعتمد كثيراً على التكرار المعتاد العمل به في الأغاني العربية، بل يتعمد على غناء القفلة بشكل متصل إلى أن تصل أم كلثوم إلى ذروة الأداء التي تحوز على إعجاب الجمهور، مثل الجملة التي في المقطع الأول التي تقول: واحد مفيش غيره…ملا الوجود نوره دعاني لبّيته…لحد باب بيته وأمّا تجلاّلي…بالدمع ناجيته وفي الخامس من يناير 1961. أسلم محمود بيرم التونسي الروح لتعود صوب النور, وليترك للحضارة العربية والساحة الإبداعية إرثا لا يقدّر بمال الدّنيا كلّها…ولم تمنحه السلطات المصرية الجنسية وجواز سفر إلا قبل أشهر قليلة من وفاته, ولم يستطع أن يسافر بهذا الجواز (الإعتراف) إلا لمدن الله والنور الأبدي حيث لا يحتاج المبدعون الحقيقيون إلى إعتراف ولا إلى جواز مرور…ولكن بيرم أحبّ مصر…أحبّها بصدق ومصر لا تهمل من يحبّها, ولو بعد موته بقرون…فشكرا لبيرم الوفي للأرض والممنوح من السماء, وشكرا لمصر التي ألهمته رغم الجوع والقهر وظلم الأصدقاء وشراستهم معه وغيرتهم الوحشيّة منه ومما أعطاه ومنحه الله من موهبة رغم حاجتة الدائمة للمال الذي كان لا يحب الإستقرار في جيبه لكي لا يعطله عن الإبداع,…فبيرم أحبّ وعشق. ومن يحبّ ويعشق بصدق, يغفر كلّ الأذى …ولا يذكر إلا أعذب اللحظات, حتى وأن كانت مع بيرم التونسي شحيحة وقليلة..ويا كم كانت شحيحة وقليلة تلك اللحظات التي ضحك فيها بيرم من القلب وبطنه ممتلئة وقلبه دافئ…. (كلمات أغنيّة : هُوّ، صحيح، الهوى غلاّب؟!) هو صحيح الهوى غلاب ؟! ما عرفش أنا والهجر قالوا مرار وعذاب واليوم بسنة جاني الهوى من غير مواعيد وكل مادا حلاوته تزيد ما أحسبش يوم ح ياخذني بعيد يمني قلبي بالأفراح وارجع وقلبي كله جراح إزاي يا ترى ؟ أهو ده اللي جرى! وانا ما عرفش نظره وكنت أحسبها سلام وتمر قوام! أتاري فيها وعود وعهود وصدود وآلام ! وعود لاتصدق ولا تنصان عهود مع اللي مالوش أمان صبر على ذله وحرمان وبدال ما اقول حرمت خلاص أقول يارب زدني كمان إزاي يا تري ؟ أهوه ده اللي جرى! وانا ما عرفش يا قلبي آه الحب وراه أشجان والم واندم واتوب وعلى المكتوب ما يفدش ندم يا ريت أنا أقدر أختار ولا كنت اعيش بين جنة ونار نهاري ليل وليلي نهار أهل الهوى وصفوا لى دواه لقيت دواه زود في أساه إزاي يا تري ؟ أهو ده اللي جرى! وانا ما عرفش ***(توضيح للصورة المصاحبة للمقال): هنا, عند هذا الشّبّاك الوحيد والمفتوح على الدّوام بحانة (ستيلا) الشهيرة بساحة طلعت حرب بالقاهرة, وعلى نفس الطاولة القديمة التي جلس حولها بيرم التونسي ونجيب سرور وأمل دنقل, ويوسف ادريس ويحيى الطاهر عبد الله وغيرهم من كبار صعاليك المبدعين المصريّين و العرب, وكنت قد دعوتُ الصديقين المسرحيّين حمّادي الوهايبي - (الذي وضعنا البيرة أمامه فقط لنمزح, لأنّه في مهمّة غير مُهمّة ولا يشرب!!) مع الصّديق حسام الغريبي. و كان ذلك مباشرة قبل عودتهما لتونس بساعات قليلة يوم 18 -01- 2016..وكانت ضحكة صافيّة من أعمق أعماق القلب مع رشفات (الستيلا) بدون كؤوس, ومع صحن النّميمة الملهمة طبعا, ذلك أنّني أعتقد جازما, بأنّ كل مبدع عربيّ لم يجلس بحانة (ستيلا) ولو مرّة واحدة, فهو لم يزر القاهرة فعلاً (هيّ مُغلقة حاليّا، بسبب الكورونة وأسباب أخرى، أتفه بكثير…).

 

أخبار اخرى فى القسم