الأربعاء 15 مايو 2024 - 08:59 صباحاً - القاهرة

     

 

 

               

 

  أحدث الأخبار

 

 

  الأكثر قراءة

 
 
 

ما أسباب تراجع الأغنية

  ازمة صوت

  ازمة كلمة

  ازمة لحن

  غياب دور الدولة في تبني أصوات جادة


نتائج

 

 
 
 

من نظرة عين


محمد صالح البحر
الأحد 07 أبريل 2019 10:00:22 صباحاً



التدين الشكلي في مواجهة النفس

يملأ الاستغراب عقولنا من ظاهرة التدين الشكلي التي يعج بها المجتمع، كل هذه الغيرة الخارجية على الدين دون أن يسأل أحدنا نفسه: هل أنا متدين فعلا؟!

و"متدين فعلا" هذه أعني بها جوهر الدين، بحيث يصبح صحيح السؤال: هل أنا ملتزم فعلا بالأخلاق الدينية، والتي هي في جوهرها أخلاق إنسانية عامة أيضا، في سلوكي وكلامي وتعاملاتي مع الآخر؟!

بالطبع لا أحد يسأل نفسه، لأن ذلك سيعني بالضرورة مواجهة صريحة ومباشرة مع النفس، وهو ما نهرب منه دوما، أو تربينا على الهروب منه، أو هو غير موجود أصلا في قيم التربية التي ننتهجها.

تأمُل هذا الأمر جَرَّني إلى تأمُل بقية الأمور التي تتعلق بحياتنا كلها، السياسة والثقافة والتعليم والعمل والحب والكُره والاقتصاد.. وغيرها، لأجد أن وجودنا فيها ليسسوى وجود خارجي وشكلي فقط، إننا نُربي أولادنا حسب وجهة نظرنا، ونتعلم حسب ظروفنا الاقتصادية، ونعمل بحسب الواسطة أو الرشوة أو الصدفة أو الفهلوة والتبعية، نكره لأسباب شخصية جدا، ونحب على أن تظل قصة حبنا دائما عُرضة للتكسر على أول عتبة خلاف، مهما كان واهنا، أو بلغ ضعفه ضعفنا الإنساني في مواجهة العالم، ومع ذلك نمتلك الجرأة على رفع أيادينا إلى السماء لطلب العطاء، بل والتذمر على تأخر الاستجابة، فقضاؤها هو ما نحن فيه من عجز وقلة حيلة، وأننا شرقيون إلى هذه الدرجة، حياة ومصيرا، وسنظل كذلك.

نحن سبّاحون مهرة جدا على سطح الماء، لكننا لم نتعلم، ولم نجرب، أبدا الغوص إلى عمق البحر، وبالتالي ليس لدينا فكرة حقيقية عن "حقيقة جوهره"، ولا جوهر الكائنات التي تُشكل وجوده في الأسفل العميق الصامت وغير الظاهر، نكتفي بمشاهدته في التليفزيون، أو نقرأ عنه، أو حتى نكتفي ـ كما في أغلب الأحيان ـ بمجرد الاستماع إلى وصف مبسط له، مجرد فكرة سريعة، وحقائق متناثرة، تمكننا من القول بأننا نمتلك الخبرة الكافية للعوم على سطح البحر، بل وإجراء المسابقات التنافسية فيما بيننا، بينما تظل الحقيقة أننا ـ كمجتمع ـ بلا ثقافة جامعة، أو معايير ثقافية ثابتة يمكن أن نحتكم إليها، لذلك ينطوي كل منا تحت غطاء ما، يسميه "وجهة نظر" غالبا اكتسبها من مرات العوم الخارجي وليس الغوص، ومع ذلك يرى أنها الصح في مقابل أخطاء كل الآخرين.

وهكذا أيضا تتجلى ثقافة الاختلاط العشوائي فيما بين وجهات النظر المختلفة والمتناقضة، حيث لا توجد صورة ذهنية ثقافية صافية وخالصة الانتماء إلى شيء بعينه داخل عقل كل منا، فالمتدين يسب كل شيء في أقرب شجار، واليساري لا يخلو حديثه أبدا من ذكر الله، والليبرالي على أتم الاستعداد لإنكارالديموقراطية وحرية الفرد والفكر والتعبير إذا تعارض ذلك مع مصالحه، والمثقف يمتلئ ضميره دوما بعكس ما يتفوه به في المنتديات، وتحتفظ جيوبه بآلاف الأقنعة حسب الطلب أو الموقف أو الشخص الذي هو بصدده، والبلطجي يمتلك قدرا لا بأس به من الحنان والحب والحرية مع أصدقائه، أو داخل بيته مع الزوجة والأولاد، بحيث سيصعب عليك تماما أن تتعرف عليه في الشارع مثلا.

فهل يمكننا في ظل هذا الاختلاط العشوائي أن نفسر تلك النظرة العميقة من الحزن التي تصيب المتدين؟! أو تلك المسحة من التدين التي تصيب معظم اليساريين في أواخر العمر، أو عند الشعور باقتراب عزرائيل منهم؟! أو تلك التوبة المفاجئة للسارق والبلطجي والعاهرة والمنافق في ذات اللحظة العمرية، أو عند ذات الشعور؟!

وحتى يتم العثور على تلك المعايير التي يمكن أن تكون حكما بين اختلافاتنا الكثيرة والعميقة، سنظل نطفو على السطح، بلا هدف ولا غاية، حتى التسابق سيفقد طعمه مع الأيام، وسنصير مثل كل الزبد الذي يطفو، وتُسيره الرياح حيث تشاء، على سطح بحر لا نهاية لامتداداته، ولا لأمواجه المتقلبة.

وفي أواخر كل عمر، أو حدث، أو كارثة، أو ثورة، أو ضياع، سنظل نلتقي ببعضنا كل يوم، شريطة أن يكون ذلك على مقهى قريب من بيوتنا الهشة كهشاشتنا تماما، ليسأل كل منا الآخر بلا انتظار لإجابة محددة أو معينة: كم مرة سبحتَ اليوم؟!