الأربعاء 15 مايو 2024 - 02:15 مساءً - القاهرة

     

 

 

               

 

  أحدث الأخبار

 

 

  الأكثر قراءة

 
 
 

ما أسباب تراجع الأغنية

  ازمة صوت

  ازمة كلمة

  ازمة لحن

  غياب دور الدولة في تبني أصوات جادة


نتائج

 

 
 
 

أيقونة الشعر


إيهاب خليفة
الأحد 14 أبريل 2019 11:06:18 صباحاً



قراءة في ديوان الشاعر عزمي عبد الوهاب "يمشي في العاصفة"

 

 

    أيا ما كان  كنه عاصفة الشاعر عزمي عبد الوهاب في ديوانه الصادر حديثا " يمشي في العاصفة "؛ فإن القارئ يجد نفسه مضطرا لخوض هذه الجولة الخطرة، لعل ذلك مبعثه هو فضول القارئ؛ ليتعرف مصير الشاعر الذي يجابه العاصفة مشيا، ولا يفكر في المراوغة أو الهروب، ما الذي قد يحدث لفرد وحيد يسير متخما بالذكريات والأحلام والآمال في مواجهة عاصفة؟ سواء أكانت هذه العاصفة تجري خارج الذات أو متخيلة في وعيه الرهيف، ومع إداركنا أن العاصفة هنا هي رمز دال بالأساس منفتح على احتمالات عديدة، إلا أنني سأحيد ما يمكن تأويله من الاحتمالات لمفردة العاصفة؛ وسأعتبر نصوص الديوان في ذاتها هي المكوّن المتعيّن لهذه العاصفة، فما إن نحرك غلاف الديوان برفق حتى تهب هذه الرياح العاتية عبر البياض، محملة بنثار كل شيء : الحب والكراهية، الثورة والخواء، العائلة والحبيبة،الصمت والكلام، عشرات الأشياء تعترض الحواس، وما هو غريب أن الشاعر سيجتاز هذا السديم الهائل مبعثرا يقينه القديم معيدا ترتيب كل شيء ، أي ان الشاعر عزمي عبد الوهاب سيصنع من هذا التشظي يقينه الكوني وهويته الغامضة، أنت – عزيزي القارئ – بصدد أن تخوّض في غبار حاد، عبر عاصفة يحدث جلها في وعي الشاعر وذاته التي تستيقظ على خسائرها الفادحة، من نصوص تسعى إلى إيقاظ كل ما هو غاف في ذواتنا جميعا، ذاكرتك الغافية ستنهض من موتها، طارحة نسيانها بعيدا، قلبك كمخزن للعواطف سيفيض بكل عاطفة منسية، وهذا الوجود كله سيستشعر الخطر وينهض كأنما سنحيا قيامة للحواس!، وبعد سطور قلائل سيصبح القارئ والشاعر كيانا واحدا، ذلك أن الشاعر بوقوفه على طلل الذات و مناجاته العذبة للمحبوبة النائمة أبدا، و باستعادته وجه الأحباب والأسلاف، و بارتجافته مع ثورة تختطف سيجعلنا نتورط - دونما حد - في تمثل كل حالات النصوص بغير تعب ، وبكثير من الشغف!

     و مما يلفت انتباهي أيضا استعمال الشاعر للفعل "يمشي" الذي يحمل دلالات متباينة عبر استعمالاتنا الحياتية، فنحن "نتمشى" بهدف التنزه أحيانا، و نحن قد " نمشي في جنازة حلم أو أحد" فعل واحد لدى الشاعر عزمي عبد الوهاب تتمحور حوله معانٍ مثل التنزه لتطهير النفس من ضغوط الحياة، و الرغبة في التخلص من فائض الوقت، و كذا السير في خطوات جنائزية مهيبة، فعل واحد يغمسه الشاعر في روحه؛ ليعطي مشاعر وحالات متباينة، ثم فاعل ذو حضور مضبب، فلا يخفى على القارئ أن الفاعل هنا في سياق البناء النحوي هو( الضمير هو) فلماذا يقصى الشاعر ذاته هكذا لتصبح غائبة رغم حضورها الطاغي في النصوص؟!، تواري الفاعل هذا له ما يبرره عندي، ذلك أن نصوص الديوان هي حالة اعترافية كبرى، يخترع الشاعر في كثير منها حبيبات و يذكر آثامه و آثامهن، دونما تردد، فهو مستفيض في هتك ستر ذاته، مذوبا كل قناع تقنع به، وبينما هو كذلك نكتشف براءة عجيبة تسكن روحه وخلاياه، إنه يعترف ؛ ليخرج ناصعا أمام نفسه في مرآة الوجود وكأن عزمي عبد الوهاب يصنع جيتو خاص به" أنا اعترف إذن أنا موجود".

 

    يفتتح الشاعر عزمي عبد الوهاب ديوان "يمشي في العاصفة" بقصيدة" لِرجُلٍ حَملَ البَحرَ عَلى كِتفيْهِ" التي بدورها تضم العديد من النصوص، أولها "متحف الشمع" وفيه يخبرنا الشاعر أن حياتنا ما هي إلا متحف شمع كبير، وأنها تحتاج إلى ما يذوبها، وفي هذا الذوبان قد تتخلق ملامحنا من جديد، مع هذا الانصهار المرتقب الذي يشتعل في أجسادنا الميتة سندفن جثة الجمود  واللافعل الذي يحيانِنَا. في هذا النص يوظف عزمي بنية النص قد تبدو جامدة أو عادية لكنها تتوافق مع انضواء العالم تحت مظلة متحف الشمع، فهو يصنع ببنية عادية نصا مغايرا ومدهشا، تنبثق دهشته مع المفارقة الدالة التي يختتم بها القصيدة، يقول في " متحف الشمع": 

 

الأشْجارُ تَكرهُ الوقوفَ،/العَصافيرُ قَتلَها الصَّمتُ،/القِطَاراتُ مَاتت انتِظارا/ فِي المَحطَّاتِ،/ الهَواتفُ لا تنقلُ الكلامَ/ بَينَ المُحبِّينَ،/ المُحبُّونَ حَبسوا البَهْجةَ/ فِي عُيونِهم،/ المُراهِقونَ بَحَثوا عَن حَديقةٍ مُناسبةٍ للغَرامِ/ وتَجمَّدوا فِي مَقاعدِهم / تَركُوا بينَهُم مَسافاتٍ/ يُجرِّبُ فِيهَا الهَواءُ سَطْوتَه،/ البَردُ أكلَ أطَرافَ الرِّجالِ،/ النساءُ اسْتَسلَمنَ / فِي مَعركةٍ غَيرِ مُتكَافئةٍ / مَعَ الوِحدةِ،/ حَتَّى الأطفالُ شَاختْ بَراءتُهم،/ كُلُّ شَيءٍ أصَابَهُ الخَرَسُ،/ فَيَا إلهِي:/ حَرِّرْ هذهِ المَدينةَ/ مِنْ قَبضَةِ امْرأةٍ/ حَبسَت الشَّمسَ فِي كَفِّها / قَبلَ أن يَتحوَّل الكَونُ /إلَى مُتحفٍ للشَّمعِ.

 

    وهكذا نجد في القصيدة الثانية:"رائحة قديمة" التي تمثل جزءا من نصه الكبير" لرجل حمل البحر على كتفيه" ، نجد حياة الشاعر وقد انفتحت على مصراعيها، حتى لنجد الموتى يبعثون في منامات الشاعر وأثر مجيئهم يطال الواقع حقيقة، فموتى عزمي عبد الوهاب حاضرون رغم اندثار أجسادهم، وهو يعاين محبتهم ، ويقاسمهم آلامهم، رغم رحيلهم وهم يشاركونه حياته حضورا بل و يقودونه في دروب الحياة المستجَدة، هؤلاء الذين ماتوا صار لهم وجود راسخ ومستمر، إنهم يتناسلون صورا وحكايات وأحاديث بينما جمدوا في قبورهم القصية و للشاعر ذات تتلاشى في محرقة التذكر الأليمة، تعاين عذاب وحدتها الأبدي، وكأنما نعاين في هذا النص بداية تذويب "متحف الشمع" يقول الشاعر عزمي عبد الوهاب:

كَثيرًا مَا أُطَالِعُ وُجوهَ مَوْتَايَ/ فِي الأَحْلامِ:/ جِلْبَابُ أبِي عَلى السُّورِ،/ وأخِي يَقُودُني إليهِ فِي العَتْمَةِ،/ والنِّساءُ اللواتِي أَحْبَبتُهنَّ،/ وَلازلنَ عَلى قَيْدِ الحَياةِ/ يَأتينَ عَلى هَيْئةِ مُوميَاواتٍ/ انتهكَ اللُّصوصُ أَسْرارَها،/ أولئكَ المَوْتَى/ جِراحُهم طَازجةٌ/ يَسيلُ منها الدَّمُ والنَّدَى،/ وَمِن أفْوَاهِهم/ تَفُوحُ رَائِحةُ نوْمٍ قَديمٍ،/ فَأصْحُو/ لأغْتسلَ مِن دِماءٍ/ لَطَّختْ قَميصِي.

 

        في حياة عزمي عبد الوهاب نجد الحياة ذاتها كمقبرة كبيرة الأعتاب والشاعر واقف على طلل ذاته، يتبدى ذلك جليا في نصه" بيت حبيبتي" -  وهو جزء أيضا من نصه الطويل " لرجل حمل البحر على كتفيه" الذي يناجي فيه حبيبة لا ترد عليه، و مما هو جدير بالتأمل أن عزمي يستحضر الذات الأنثوية كثيرا في نصوصه وهي سمة أكيدة في جل شعره، وسواء أكانت المرأة محبوبة أم أما أم قصيدة مرجوة متخيلة أم قصيدة مرجأة، أو حتى رمزا سلطويا يحبس الشمس ويجمد العالم- على حد تعبير الشاعر نفسه- فإن الشاعر مولع بجعل الذات الأنثوية دالا مركزيا في شعره، فبيت الحبيبة وحده هو الذي يستقبل الشاعر العائد من موته، لكي ينام فيه، فالموت المتكرر للشاعر ألم أبدي، أما النوم في بيت الحبيبة راحة ودفء، إنه الامل المرجو لجسد خاض معارك ضارية خرج منها منتصرا ومهزوما في آن واحد، يقول الشاعر عزمي عبد الوهاب:

 

يَا بَيت حَبيبتي/ أنَا قَادِمٌ منَ المَوْتِ/ فَافْتحِ البَابَ،/ بَيتُ حَبيبتِي صَغيرٌ وجَميلٌ،/ تُنيرهُ ابتِسَامَةٌ خَفيفةٌ،/ وَيُشيعُ الدِّفءَ فِي أرْكَانِه / قَميصٌ فَاجرٌ/ ونَافذةٌ مَفتوحةٌ عَلى القَمرِ، / وحِينَ تَنامُ حَبيبتِي تَقُصُّ المَلائكةُ شَعْرَهَا/ النَّائمَ عَلى الوِسَادةِ/ فَتَحْدُثُ المعْجزةُ:/ وَجْهٌ مُسْتديرٌ كَزَهْرةِ العَبَّادِ،/ تُصَلِّي لهُ الشَّمسُ صَلاةَ المَطرِ،/ أنَا قَادمٌ منَ المَوتِ/ يَا بَيت حَبيبتِي،/ قَطَعْتُ مَسيرةَ أربعينَ عَاما / مِنَ الرِّمالِ،/ طَرقتُ البابَ حتَّى لَفَّتْ وَجْهِيَ/ خُيوطُ العَنكَبوتِ،/ فَافتحْ/ يَا بَيت حَبيبتِي/حَتَّى أنَامَ

 

 

حالة متصلة من النوستالجيا تظلل نص " لرجل حمل البحر على كتفيه" وبرغم أن أحدا لن يفتح لشاعر بابا كما يصرح هو قائلا:

"مَا جَدْوَى /أَنْ تَدُقَّ/ بِعُنْفٍ/بَابَ امْرَأَةٍ/  نَائِمَةٍ فِي جُبٍّ سَحِيقٍ؟/ مَا جَدْوَى /الحَيَاة؟ " رغم ذلك التصريح نجد لدى الشاعر ذلك الحنين الجارف كأمواج البحر إلى رمال الشاطئ، والعاطفة في حال من المد والجزر، و نجد الشاعر قديسا و شهوانيا في آن واحد تجاه الحبيبة، ينمحي جسده ويغدو شبحا يتتبع الحبيبة في كل الأرجاء، وهو تارة بريء كملاك، حين يقول:

وحِينَ تَنامُ حَبيبتِي تَقُصُّ المَلائكةُ شَعْرَهَا/ النَّائمَ عَلى الوِسَادةِ/ فَتَحْدُثُ المعْجزةُ:/ وَجْهٌ مُسْتديرٌ كَزَهْرةِ العَبَّادِ،/ تُصَلِّي لهُ الشَّمسُ صَلاةَ المَطرِ

 

وتارة أخرى يتفصد جسده شهوة ورغبة إلى الحبيبة، حين يقول :

 

    سَأعُودُ إلى أمِّي/ أَشْكو إليهَا:/ أنتِ تَرْكتِ يَدي فِي الزِّحامِ/ فَاسْتندتُ إلى حَائطٍ لا ظِلَّ لَه،/ أنتِ تَركتِ شَفتيَّ فِي مُنتصَفِ الرَّغبةِ/ فَنسيتُ الكَلامَ،/ أنتِ تَركْتِني مُعَلَّقَا بِخُيوطِ فَجرٍ خُرافِيٍّ/ فَلم يَطلعْ نَهارٌ/ سَأعودُ إليكِ

 

وأيضا:

" دَائِمًا تُخْطِئِينَ فِي اسْمِي/ عِندَمَا تَكْتُبِينَ قَصَائِدَ الغِيَابِ/ أَنَا المُوحَشُ كَخَلاءٍ/ الصَّامِتُ كَشَوكَةٍ في الحَلْقِ/ لِمَاذَا غَلَّقْتِ بَابَكِ/ دُوْنَ أَنْ تَقُولِي: هِئْتُ لَكَ؟"

 

ومرة يخبرنا أنه أضاع عمره كله من أجل تحقيق أمنية المحبوبة بإحضار البحر لها، حتى تطهره من ملوحته، لكنه أتى بالبحر في الوقت الضائع، لتبقى الحياة مالحة كالحة على كل حال، لا يملك فيها إلا التذكر، أتى بالحبر محمولا على كتفيه وهو الظامئ، يقول الشاعر :

 

"افتَحي البابَ/ جِئتُ إليكِ بالبحرِ/ تَعبْتُ كَثيرا/ حَتّى أُحافظَ على أمْواجهِ/ فَلا تضيعُ واحدةٌ مِنها في الطّريقِ"

 

    إن أكثر الحقائق المدهشة التي تطرحها القصيدة أن الحبيبة التي يشتهيها الشاعر تبدو مستحيلة،  فهي ربما ثورة موءودة أو ضائعة، وربما تكون قصيدة شعرية، وربما من دون اللجوء إلى التأويل، تكون حبيبة من لحم ودم، لكن رغم هذا الجيشان العاطفي والنزق الهادر في خلايا الشاعر إليها أيا ما كانت، فهو يعلم أن الغياب لا الحضور هو الذي كان يحكم علاقته بالمرأة، رغم أنه يحيا من أجل بلوغ منتهى المحبة، و التماهي في ذات أخرى مراوغة، لكن عزمي وبتعبيره هو ليس سوى رجل يكسب الخسارات، يقول في قصيدة " غياب" :

 

شُكرًا/ عَلَى المَنَاديلِ الَّتِي وَدَّعْتَنِي بِها/ وَأَنَا ذَاهبٌ إلى غِيَابٍ/ شُكرًا/ عَلَى الوُرُودِ الَّتِي اسْتَقْبَلْتَنِي بِها/ وَأَنَا عَائِدٌ مِنْ غِيَابٍ/ شُكرًا يَا حَبيبَتِي/ عَلَى هَذَا الغِيَابِ

 

    في نص" سأحكي لكِ كثيرا" نجد الشاعر يطعم ديوانه بخسارة جديدة، ليست ذاتية بل منضوية تحت راية القضايا العامة،هنا نستشف أن الشاعر يهدم أطروحات قصيدة النثر التي زعمت مجافاة الشعر للقضايا العامة، وانكفاء الشعراء على الذاتي والمهمش والتفاصيل اليومية و غيرها، في " سأحكي لكِ كثيرا" يأتي ذكر ثورة الخامس والعشرين من يناير مقترنا برغبة الشاعر في خيانة جسده،وعبر تداعيات الشاعر ومناجاته للحبيبة الغائبة دوما يصدر لنا الشاعر اعترافا جديدا عن هذه اللحظة العاصفة بحياتنا- كمصريين- في ما سمى الربيع العربي ،  هذه اللحظة التي أسقطت ورق التوت عن عوراتنا، يقول في ختام هذا النص:

 

سَأحكِي /عن الثَّورةِ التي سُرِقَتْ من ميدانِ التَّحريرِ؛/ لأنَّ الأشْجَارَ لا تَكبرُ فِي الصَّحراءِ،/ وَأعمدةَ الكهرباءِ لا تُصدِّق غِناءَ الطُّيورِ؛/ ولأنَّ رَجُلا مَهزومًا / أيقنَ أنَّ الأبديَّةَ شَيءٌ مُستحيلٌ،/ أخَذَ يَحْكي هَاربا / فِي أحاديثِ الثَّورةِ،/ ولماذا يَكرهُ الإخوانَ والسَّلفيينَ،/ ولأنَّ شَيئا انْطفأ فِي روحِه / لم يَعد قَادرا عَلى الطيرانِ.

سَأحكِي لكِ كَثيرا/ وسَتبقينَ صَامتةً كَبحيرةٍ مَهجورةٍ،/ أنتِ بكاملِ مَلابسكِ تَماما،/ وأنَا بِكاملِ الحُمَّى والهَذيانِ،/ لا أعرفُ كَيفَ أعودُ إلى بَيتي/ عَاريا هَكذا!

 

   أما في قصيدة " يمشي في العاصفة"  يغير الشاعر تصورنا عن كنه الأشياء كالروح والجسد، الليل والنهار، القرب والبعد ، فمثلا يؤكد بإلحاح جنوني أن الروح ثقيلة، وأنها ليست ذلك النور الشفيف الذي يسكننا، بل هي بميراثها من الفقد و الوحدة و انكسار النفس أثقل من الجسد الذي يأويها، على هذا فعزمي عبد الوهاب يعاني من الآلام التي صارت تقطن حواسه وخلاياه، و يريد أن يستنقذ نفسه من روحه الثقيلة التي يحلم أن تصبح خفيفة كالطيف فتلاقي طيف الحبيبة التي تعذر لقياها، أو تستحضرها عبر شياطين، ذلك أن الشاعر يعيش تراجيديا العاشق المهزوم و البطل المأزوم المستمر في أمل استعادة الحب الذي أدركته الشيخوخة، يقول الشاعر عزمي عبد الوهاب في مستهل القصيدة التي يحمل الديوان عنوانها:

 

لَيتَ روحُه تَخِفُّ،/ فيطلبُ اسْتدعاءَك من لحَظاتِ الغيابِ، مُستَعينا بِالطاقةِ الشِّريرةِ لإحْضارِ شَيطانكِ، فِي غَمضةِ عَينٍ، وكَأنَّكِ عَلى أطرافِ أصَابعِه، عِندئذٍ سَتصدِّقينَ أنتِ التي تَكرهينَ نَهاراتِ وسط البلد أنَّه حَبسَ الليلَ فِي غُرفتِه لأجلكِ.

 

   في هذا النص يستخدم الشاعر تقنية تكرار " ليت روحه تخف" مستخدما إياها كجملة مفتاحية، تتنامي أذرع النص بعدها وكأنما يضغط في كل مرة على الجرح؛ ليزداد اتساعا، ونزيفا، هو لا يريد لهذه الجراح أن  تلتئم، بل يغمس حواسه في جرحه بمازوخية، ليتألم، فطالما خسر اللذة، فهو مستعد للاشتباك الدائم مع قنفذ الألم، يقول الشاعر:

ليتَ روحُه تَخِفُّ،

أو تَتناسخُ فِي صُورةٍ عَلى جَدارٍ، أَعْلى سَريركِ، لَيْته - ذلكَ العبيطُ - صُورةٌ تطردُ النَّومَ من عينيكِ، فربَّما تَعرفينَ مَعنى أنْ تَقضي الليلَ وحيدةً، تُحاصركِ أشباحُ الذِّكرياتِ الناتئةِ، كَحبَّةِ حُزنٍ نَاضجةٍ، تُقاومُ السُّقوطَ.

.../ ربَّما تَعرفينَ مَعنى أنْ يمشِي رَجلٌ فِي العَاصفةِ وَحيدا، دُونَ يدٍ، تَمسحُ الغبارَ عن روحِه المُتَّسخةِ بالمَطرِ.

 

    ومع القصيدة الرابعة في الديوان " اتركيه لحاله يا حنين"  -التي تمثل كشفا لحقائق أجلها الشاعر حتى النهاية- نكتشف أن الشاعر كان مراوغا جدا في طرحه نصوصا كثيرة تختص المحبوبة، - وحنين هذه شخصية متخيلة، اصطنعها الشاعر لنفسه، ليحدثها على طريقة أسلافنا الشعراء في اصطناع الصاحبين عند الوقوف على الأطلال ولكن عزمي اصطنع حبيبة؛ ليكلمها عن حبيبته التي تجافيه خصاما أو بعدا أو نسيانا أو موتا ويشتكي لهذه الحبيبة المتخيلة من حبيبته، فهو لا يأتنس كشاعر سوى بالحديث إليها أيا كانت قريبة ،بعيدة، حاضرة،غائبة، حقيقة ، وهما، و في نصه هذا نتأكد أن الحبيبة ليست فقط امرأة، بل هي الرحم الكوني للجمال الذي ينشده الشاعر، ويسعى حثيثا ؛ ليذوب فيه، ملامسا صفاءه ونقاءه ، هذا الرحم الذي قد يكون اليابسة التي نتتسب لها، أو البيوت الطينية التي نحملها في ذاكراتنا، إنه يتوق إلى ولادة جديدة له، وميلاد جديد للكون،في نص " " اتركيه لحاله يا حنين"  يوغل الشاعر في تعرية وافتضاح كل شيء، ويصبح عزمي عبد الوهاب نفسه العاصفة ذاتها التي تهب في كل الأرجاء، كلماته الغبار الكوني المصوب تجاه حواسنا، حكاياته الصراخ الهائل يترصدنا، فلا نملك منه فرارا،  ومن الحقائق التي تهشم بها هذه القصيدة يقيننا:

أضع بعض الشذرات ، يقول عزمي عبد الوهاب:

-1- الاكتمالُ وَهْمٌ / تَعلَّقَ فِي عِصِيِّ الرُّعاةِ/ البَاحثينَ عن أفقٍ  / فِي زمنِ الجَرادِ

-2- الطَّريقُ إلى بَيتِ حَبيبتي، لا يبْدأُ ولا يَنتهِي، والعَلاماتُ سَرَقَها اللُّصوصُ وكلابُ السِّككِ، ولا دليلَ يَقودُنِي إلى رَائِحةٍ تَركْتُها هُناكَ...

-3- لَمْ نذهبْ إلى بَيتِ كَفافِي / وَحُرَّاسُ القلعةِ كَذَبُوا عَلينا / وَأخْفُوا مَفاتيحَ الخُروجِ منَ المتاهةِ

-4- كانَ يُكلِّمُ الهَواءَ عَن قِدِّيسةٍ/ تَخْضَرُّ الصَّحَراءُ فِي خُطواتِها/ ويَبحثُ العُصَاةُ عن آثَامِهم فِي كَلامِها

-5- إنَّه يَكرهُكِ، لأنَّ شَجرةً تبخلُ بِظلِّها عَلى عَابرِ سَبيلٍ مآلُها الفنَاءُ،

 

     هكذا نكاشف مأساة شاعر اكتشف ضآلة كل شيء، وأنه مجرد فاصلة،  وان الحياة خدعة كبيرة ووهما أكبر، لا شيء سوى حقيقة إليوت عنا نحن محض رجال محشوين بالقش، نحن نسل الرجال الجوف إذن ،لذا يقرر الشاعر أخيرا أن يواجه العالم دون حبيباته المتخيلات، يقرر أن هذا الوهم المسمى حبا، وعشقا يجب الخلاص منه، يقرر أن لا يرسل رسائل إضافية لحبيبة خانته ، وأن يقطع حبله السري باليابسة المحتشدة بالأكاذيب، يقول عزمي عبد الوهاب :

 

اتْركِيه لحَالِه يَا حَنين

 يُكلِّمُ العَابرينَ فوقَ جُثَّتِه

عَنْ حِشْمةٍ تَتخَفَّى فِي الغُموضِ

وتُعلنُ العَداءَ للوضُوحِ،

فَيهتفُ التوَّابُونَ والخطَّاءونَ:

هَذا رَجلٌ، دَفعَه قَدَرُه، نَحْو هَاويةٍ، فعَانقَها،

ومَاتَ راضِيا

* متى تكونينَ حَقيقيَّةً يَا حنين؟

- عندمَا تُريدُنِي امرأتكَ

اذهَبي

يَا حنينُ

فالجُمَلُ التي لَها مَحَلٌّ منَ الإِعرابِ،

تُبَاعُ في الدَّكَاكينِ، وتَصْنعُ كُتبا مَصيرُها الحَريقُ،

والرِّجالُ المَحشوُّونَ بالقشِّ،

مَرْميُّونَ عَلى قَارعَة الطَّريقِ.

اذْهَبي

يَا

حَنين!

 ختاما يعد ديوان " يمشي في العاصفة" ديوانا مفصليا في تجربة شعرية ضافية تمثل حجر زاوية في قصيدة النثر المصرية والعربية، هذه التجربة تزداد أصالة ورسوخا بمضي الوقت، وبحق يؤكد الشاعر عزمي عبد الوهاب جدارتَهُ كشاعر كبير، كما يضاف منجز هذا الديوان إلى دواوين مهمة صدرت للشاعر أذكر منها : النوافذ لا أثر لها،  الأسماء لا تليق بالأماكن

، بأكاذيب سوداء كثيرة، بعد خروج الملاك مباشرة، حارس الفنار العجوز، شخص جدير بالكراهية ومؤخرا ديوانه غلطة لاعب السيرك.