الأربعاء 15 مايو 2024 - 07:09 صباحاً - القاهرة

     

 

 

               

 

  أحدث الأخبار

 

 

  الأكثر قراءة

 
 
 

ما أسباب تراجع الأغنية

  ازمة صوت

  ازمة كلمة

  ازمة لحن

  غياب دور الدولة في تبني أصوات جادة


نتائج

 

 
 
 

ذكرى درويش/ الفلسطيني: من الأممية إلى القومية


د.حاتم الجوهري
الأربعاء 03 يوليو 2019 09:39:05 صباحاً



في التاسع من الشهر القادم (أغسطس) تحل علينا ذكرى وفاة محمود درويش الشاعر الفلسطيني الرمز الذي رحل عن عالمنا عام 2008، تأتي الذكرى في خضم ظروف قاسية تشهدها المنطقة العربية والأرض الفلسطينية المحتلة على وجه التحديد، حيث يقف الفلسطيني ما بين محاولات القهر والحصار والتركيع للقبول بصفقة القرن، وبين مقاومتهم الحاشدة عن طريق مسيرات العودة الأسبوعية الحاشدة التي تحولت لطقس مقاوم، يعبر عن استمرار المقاومة والقدرة على الحياة في ظلها؛ لا يمثله خير تمثيل سوى مشهد في واحدة من مسيرات العودة ، حين كان يرقص "الدبكة" الفلسطينية الشهيرة مجموعة من الفلسطينيين بكل إباء، وسط الدخان ونيران قناصة الاحتلال على حدود غزة دون اكتراث.

محمود درويش (1941- 2008)، أحد أهم الشعراء الفلسطينيين الذين ارتبط اسمهم بشعر المقاومة الفلسطينية، ويمثل نموذجا فريدا في الوعي بالذات وتجاوز الاستلاب والنماذج المعرفية والأيديولوجية والثقافية التي استقبلتها الحاضنة العربية الفلسطينة مع الاحتلال، حيث انتقل من تلقي أفكار اليسار والثقافة الأوربية عن طريق تنظيمات اليسار الصهيوني، إلى التمرد تماما عليها والوعي بالذات والتحول لحالة القومية الثقافية والسياسية، وهذا طريق من الآلام والوعي الطويل لم تصنعه سوى رحلة ممتدة شكلها وعيه وعودته للحاضنة العربية وخروجه من أوهام الاحتلال الصهيوني التقدمي..

تبدأ الرحلة بميلاد محمود درويش عام 1941 قرب مدينة الجليل، ليأتي عام عام 1948 ويرحل هاربا مع عائلته إلى لبنان، ثم تسللت العائلة عائدة إلى فلسطين مرة أخرى بعدها بعام، ليجد الصهاينة قد أحالوا قريتهم إلى مستوطنة وتضطر عائلته للعيش والتعايش معهم في اولى مفارقات القدر معه، ويختبر في بواكير حياته الانتساب إلى الحزب الشيوعي الإسرائيلي المزعوم، غير أن تطور وعيه الشخصي قاده للاعتقال أكثر من مرّة صعودا من عام 1961 بتهم تتعلق بأقواله ونشاطاته السياسية، قبل أن يخرج من فلسطين مقاوما كشاعرها الأول ولسان حالها.

يعد درويش خير ممثل لجدلية المقاومة أو التعايش في الحالة الفلسطينية المبكرة، كان يكتب شعر المقاومة والصمود في وجه الاحتلال بقصائد لازعة أوجعت السلطات الصهيونية مثل قصيدته ذات الصلة: "عابرون في كلام عابر"، وفي الوقت نفسه كان يصر على الحياة الطبيعية كأي إنسان من حقه الحب والسعى واختبار كافة مجريات الحياة بحلوها ومرها كشخص عادي.

هذه الثنائية كانت تتحول من التعايش إلى علاقة التضاد والأزمة أحيانا، وهو ما تجسد في قصيدته المعروفة أيضا : "ريتا والبندقية"، عن حبه لفتاة من المستوطنين الصهاينة ووقوعه في حيرة ما بين حبه الإنساني الذي أجاد وصفه كشاعر معبر من الدرجة الأولى، وبين التزامه بالمقاومة التي تمثلت في البندقية التي تحول بينه وبين عيون "ريتا" المستوطنة الصهيونية ذات العيون العسلية.

ثنائية المقاومة والتعايش أخذت وقتا وجدلا في تاريخ الحالة الفلسطينية عند درويش، إلى أن حسم الوعي بالذات ومصيرها المستقل الجدلَ ورجحت كفة المقاومة، ولم تكن "ريتا والبندقية" حالة خاصة بدرويش وحده، إنما شاعت عند كثير من شعراء ومثقفي اليسار الفلسطيني على الأقل لفترة من الزمن، قبل أن يستقل اليسار الفلسطيني سياسيا ويشب عن طوق اليسار الصهيوني الذي أغواه قديما برطانة التقدمية والتعايش، وتحت ضغط الحاجة وعنصرية اليمين الصهيوني.

درويش نفسه قرأ الشعر العبري الحديث الذي كتبه المستوطنون الصهاينة، وأعجب بواحد من أهم شعراء العبرية هناك وهو: "يهودا عميحاي" وأعلن تأثره به وبأشعاره، في الوقت نفسه كانت أشعار درويش تترجم للعبرية وكثيرا ما صَنعت المشاكل له في مواجهتهم مثل قصيدته: "عابرون في كلام عابر"، ولحين كانت مجلة الكرمل أيضا تقدم نصوصا عبرية مترجمة للعربية، عادة ما كانت لشعراء ينتمون لليسار الصهيوني.

إلا أن درويش الشاعر والسياسي من خلال تطور وعيه بذاته، وتطور الأحداث السياسية واتساع الهوة بين المسار الفلسطيني العربي، ومسار المستوطنين اليهود دعاة دولة الاحتلال العمالي التقدمي المشترك بين العرب واليهود، سرعان ما حسم هذه الجدلية وانتصر لجانب الذات والمقاومة وخرج من الحزب الشيوعي الإسرائيلي، ثم سرعان ما خرج من فلسطين كلها ليستقر في القاهرة حينا ملتحقا بمنظمة التحرير الفلسطينية ثم إلى بيروت، قبل أن يضع مرساته في باريس وجهة المثقفين العرب الشهيرة في القرن الماضي.

ووصلت قناعته بفكرة التعايش مع المستوطنين الصهاينة إلى اللا عودة حيث استقال من اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير نفسها احتجاجا على توقيع اتفاقية أوسلو للسلام وتفاهماتها في تسعينيات القرن الماضي.

ومنذ أن خرج محمود درويش في سبعينيات القرن الماضي من فلسطين، وضح مشروعه الشعري تماما، وارتبط يقينه بفكرة الأرض والقومية العربية وهويتها كما في قصيدته الشهيرة: "بطاقة هوية"، وتحت هذا المشروع المركز تمر معظم أشعار درويش ولابد في النهاية أن تقدم له فروض الولاء والطاعة، وظل درويش حتى اللحظة الأخيرة إلى جانب المقاومة مشغولا بحالة الفقد والحنين الأبديين، لكنه حنين الصمود وفقد الذات المقاومة التي تحلم باستعادة ما لها.

حسم اختيار درويش أن فكرة الصراع مع الآخر/ المحتل صارت مفروضة عليه طوال الوقت، مفروضة من قبل الممارسات المتطرفة والسياسات العدوانية المستمرة، وكلما حاول الفلسطينيون نسيانها و التعايش وفق ما يروجه اليسار الصهيوني المزعوم، ذكرهم التطرف الاسرائيلى عن طريق ممارساته المتسلطة والعدوانية بالأزمة، فارضا عليهم ضرورة أن يقوموا بدور الآخر/العدو.

ناهيك عن الحقيقة الموجعة التي يحاول اليسار الصهيوني القفز عليها؛ بأن التيار المنظم القوي الرئيسي الذي وضع أفكار هرتزل القادمة من أوربا الغربية بعد ترحاله الطويل دون جدوى، كان هو اليسار اليهودي في روسيا حين غير عقيدته السياسية إلى مشروع هرتزل، في خضم ما عرف بأحداث "البوجرم" أو الاضطهاد الذي تعرض له اليهود هناك، بسبب ما أشيع عن ضلوعهم في اغتيال القيصر الروسي، حيث غيرت هذه الأحداث فكر اليسار اليهودي الروسي، وتحول من الاتجاه الأممي والمساهمة في المسيرة الماركسية الروسية، إلى فكرة القومية اليهودية من خلال الصهيونية، بعد أن منحها فلسفة مادية سميت بـ "الصهيونية الماركسية"، قدمت أيديولوجية منظمة عن دولة احتلال تقدمي مزعوم بين العرب واليهود! على أساسها نُظمت الهجرات الكبرى من روسيا، وأسس الهستدروت والمستوطنات الجماعية في فلسطين على الشكل الماركسي المنتحل.

لكن موقف محمود درويش حسم الصراع عند الكثير من الفلسطينيين الذين تلقوا فكرة اليسار والأممية على يد "الصهيونية الماركسية" لمنظرها "بيير دوف بيرخوف" اليهودي الروسي الصهيوني، فرغم كل شيء كان هناك بعض الفلسطينيين ممن نشأوا في ظل علاقة ظرفية طارئة مع اليسار الصهيوني، أسرى لتلك الأيديولوجية وبعدها السيكولوجي، غير أن وعي درويش بذاته العربية ومصيرها واستحالة الجمع بين المصير الفلسطيني، ومصير المستوطنين الصهاينة في دولة احتلال تقدمي مزعوم، حسم موقف العديد ممن الفلسطينيين الذين تربوا داخل أحزاب الصهيونية الماركسية في دولة الاحتلال.

وفي أشعار درويش الناضجة تبدو إشكالية الصراع الاسرائيلى الفلسطينى واضحة دون لبس، فى أنهما يتنازعان على كل شئ موجود تقريبا، وليس فى صورة صراع على السيادة السياسية فقط، هما يتنازعان على: الموارد ، الأرض ، الماء ، الحدود ، التاريخ، المستقبل ، الهوية، الفلكلور، التراث ، وعلى أسماء المدن أيضا.

إن ذكرى درويش هذا العام يجب أن تؤكد على الصمود العربي وتطور وعيه بذاته المستمر ومقاومته الثقافية في مواجهة محاولات الذويب للذات الفلسطينينة داخل ما هو صهيوني من خلال المؤامرة المرعوفة بـ "صفقة القرن"، وحيث يمثل انفصال درويش عن السياقات الغربية المضمرة المبركة التي مثلتها الصهيونية في صورتها التقدمية المزعومة نموذجا يحتذى؛ بما يستدعي انتفاضة الذات العربية الآملة بضرورة البحث، وتأكيد السعي لبناء نماذج معرفية وثقافية أدبية عربية مستقلة، واضحة الهوية والإرادة والهوى في مواجهة داعاوى الاستلاب والانبطاح للذات الغربية والصهيونية