كم من مرة رغبت فى فتح باب أسانسير العمارة العتيق، فخامة خبا بريقها، لكنها تعلن عن وجودها بما يتمتع به الأسانسير من كفاءة. أتعجب من صعوده المتواصل، وهبوطه، دون أن يعلن عن توقفه أو تعطله.

 على دكة خشبية يجلس - فى الغالب - رجل أو اثنان، تشى ملامحهما، بانتمائهما إلى الجنوب، يتفحصان كل من يدخل البناية، أو يغادرها، يردان التحية، أو يجيبان على سؤال.

المترددون على العمارة من أعمار مختلفة. ثمة شباب يصعدون السلم، وهم يحملون آلات موسيقية. أعرف أن في الطوابق العليًا ناديًا لفنون الموسيقى، تشير الخطوات الشابة المتقافزة على السلم، إلى انتهاء صخب الشباب من التدريبات، أو فراغهم من سماع المحاضرة، ومن شاغلي البناية رجال أعمال وشركات أو توكيلات.

العمارة تقع على ثلاث نواص: الواجهة على شارع قصر العينى، أما الناصيتان الأخريان فتطلان على جاردن سيتى، الحي ذي الرائحة الأرستقراطية القديمة. كغالبية عمارات القرن الماضى ثمة مرآة من الزجاج البلجيكى تتحدى الزمن بصفائها.

ما حكاية عمارة سيف الدين؟ لماذا اكتفت بهذا الاسم، ليتصور المرء بناية بالذات، وسكان لهم أنشطتهم المحددة؟

  سيف الدين هو صاحب العمارة. نجل البرنس إبراهيم باشا، حفيد الباشا محمد على الكبير، شقيق شويكار الزوجة الأولى للأمير فؤاد الأول، ثم ملك مصر فيما بعد، تشاجر أحمد سيف الدين مع الأمير أحمد فؤاد زوج أخته شويكار التي كانت من جميلات الأسرة الحاكمة، نجا الأمير بأعجوبة، كان فؤاد الأول من رجال الأسرة الحاكمة، عرف بحياته المتسمة بالصعلكة.

عانت شويكار من معاملة زوجها القاسية، وحاول شقيقها البرنس أحمد سيف الدين أن ينتقم لها، ولأنه كان شخصية مغامرة، نزقة، فقد وقف أمام القضاء ليدفع ثمن محاولته.

حتى يفلت الأمير من السجن وانتقام فؤاد، فقد أدخل مستشفى للأمراض النفسية، ومنها رحل إلى إنجلترا، بناء على تقرير مدير المستشفى.

ظلت شويكار من الأميرات المحتفى بهن. لم تؤثر تلك الواقعة على علاقتها المقربة بأميرات الأسرة الحاكمة، أما أحمد سيف الدين فقد ظلت سمعته قائمة، محبًا للفنون والموسيقى، مغرمًا بكل ما هو غريب، ومن هواياته اقتناء المسدسات النادرة. كان مدللًا من والدته نجوان هانم المرأة التركية التى تمتعت بقوة جعلتها تطالب بالإشراف على أملاك ابنها وإدارتها، وكانت عمارة سيف الدين من أشهر هذه الأملاك في القاهرة، بالإضافة إلى عقارات فى الإسكندرية والبحيرة.

قبل أن نلج باب عمارة سيف الدين، أو بعد أن نغادره، نحن نشاهد – في الطابق الأرضي - عدة محلات، لعل أشهرها حلوانى اشتهر فى أوائل الألفية الثالثة، احتل – أول ما بدأ -واجهتين، ثم اكتفى - بعد فترة - بواجهة واحدة على شارع قصر العينى، عرض فيها أصنافًا من الشيكولاتة، ومحلًا للعصير يقصر بضاعته على عصير القصب، لا يعني صاحبه بالإضاءة ولا الإبهار، لكن القلة يدركون أنه أفضل من يقدم عصير القصب فى شارع قصر العينى، وإلى جوار محل العصير، محل  للكشرى هو ثاني محل من نوعه فى شارع قصر العينى، وإن حول نشاطه إلى تقديم وجبات متنوعة من الفول المدمس، ونافس مطاعم شهيرة، لها سمعتها الطيبة لدى الموظفين والعاملين فى الإدارات والشركات والمحال. أرقب المطعم الذى حاول أن يضفى طابعًا شعبيًا، فبظّ إلى الرصيف عبر عدة طاولات، في دعوة للزبائن بتناول الوجبات، والاستمتاع – في الوقت نفسه - بمتابعة حركة المارة.

إذا اتجهت إلى الجهة الثانية من العمارة، والتى تطل على جاردن سيتى، فستجد صيدلية جديدة يديرها طبيبان، يجاورها محلان متقاربان فى نشاطهما، يبيعان الهدايا والدباديب والأدوات المنزلية، ومحل لبيع الطيور المذبوحة، اختار له صاحبه اسم جاردن سيتى، سعيًا – ربما – لمخاطبة ذاكرة المتردد، وأنه من الصفوة، يلاصقه محل بقالة يتبع سلسلة محلات لأسرة فلسطينية.

ترى من أول سكن هذه المحال؟ وما الأنشطة التى مارسها أصحابها، قبل أن تستقر على الصورة الحالية؟

 أهم سكان عمارة سيف الدين – من حيث المكانة السياسية – المستشار حافظ بدوي رئيس مجلس الشعب الأسبق، ود. ناصر الأنصاري كبير أمناء رئاسة الجمهورية، ورئيس دار الأوبرا – فيما بعد – ثم رئيس الهيئة المصرية العامة للكتاب. ومن سكانها سفراء ورجال أعمال وضباط سابقون، وتفصح ملامح بعض السكان عن أصولهم التركية.

عمارة سيف الدين لها تاريخ يتكىء على سيرة صاحبها، الذى  أنفق بسخاء وبذخ شديدين. وقيل إنه أنفق عشرات الألوف من الجنيهات لإعداد قصر له أثناء إقامته فى تركيا، بعد هروبه من مستشفى الأمراض النفسية بإنجلترا.

كيف تمت استعادة أملاك أحمد سيف الدين؟

يروى د. يونان لبيب رزق أن نجوان هانم، والدة أحمد سيف الدين أرادت استرداد أملاك ابنها عبر إقامة دعوى قضائية أمام المحكمة المختلطة، نظرًا لأنها من رعايا الدولة التركية، ولها حق الامتياز، واللجوء للمحكمة المختلطة، لكنها فوجئت برفض طلبها، لأن الدولة المصرية سعت لتقليص المحاكم المختلطة، واضطرت نجوان هانم بالتالي للبحث عن طريق آخر، تسترد من خلاله أملاك ابنها.

تفصيلات كثيرة، لعل أطرفها أن أتعاب المكتب المسئول عن رفع القضية سيحصل على أتعاب 130 ألف جنيه!