الخميس 16 مايو 2024 - 02:16 صباحاً - القاهرة

     

 

 

               

 

  أحدث الأخبار

 

 

  الأكثر قراءة

 
 
 

ما أسباب تراجع الأغنية

  ازمة صوت

  ازمة كلمة

  ازمة لحن

  غياب دور الدولة في تبني أصوات جادة


نتائج

 

 
 
 

التحرر الأول: كسر إطار التكيف الاجتماعي


د.حاتم الجوهري
الجمعة 06 سبتمبر 2019 01:03:37 صباحاً



 

يعيش الإنسان وفق مجموعة من القيم الحاكمة، ويتدافع داخله تياران لحسم اختياراته: الأول هو العقل الفردي وقدرته الذاتية على بناء تصوراته عن الوجود بشكل مستقل، والثاني هو المحيط الاجتماعي الذى يعمل في معظم الأحيانعلى "التنميط" لضبط وتحجيم الاختيارات الفردية وقهرها لتخضع للقيم النمطية السائدة في المحيط الاجتماعي للإنسان الذي يشمل في المرحلة الأولي: الأسرة الصغيرة- العائلة- المدرسة – أصدقاء الحي..، ويتطور مع الزمن ليصبح مؤسسة العمل- زملاء العمل- الجيران- المجتمع الكبير- ..

الحقيقة أن الإنسان الصادق مع نفسه الباحث عن وجود حقيقي؛ لابد أن يصل للمرحلة الحاسمة ويعلنها في سره، بحتمية التمرد الناعم على القيم النمطية المسبقة للإطار الاجتماعي، فهذه القيم يكون الهدف الأساسي منها هو تنميط الوجود الإنساني وجعله جامدا أشبه بالمصنع صاحب الإنتاج المتشابه الذي يمنع الاختلاف بين مخرجاته.. في حين الذي سيتمرد على المحيط الاجتماعي وماكينة التنميط لابد وأن يملك البديل، وعادة ما يكون ذلك البديل هو الحلم وكسر المألوف والإبداع والتفكير، ولا يقدر على كسر النمطي إلا الإنسان الحقيقي صاحب الملكات الفردية والاختيارات المستقلة، القوية القادرة على الصمود في وجه ماكينة التنميط الاجتماعي..

المتحرر هو شخص يملك القدرة على الاختيار من متعدد دون غواية، ويملك القدرة على الثقة في نفسه، وكسر مفهوم المجتمع المسبق عن فكرة ما.. فقد يري المجتمع القيمة في وظيفة ما ولا يراها المتمرد كذلك، وقد يري المجتمع القيمة في أشكال وجاهة ما ولا يراها المتمرد كذلك، المتمرد يسعي للمواجهة في حين تعمل قيم المحيط الاجتماعي على التغاضي والموائمة وقبول الحال على ما هو عليه..

المحيط الاجتماعي هو ماكينة ضخمة لتكيف الفرد وتنميطه مع قيمها الجاهزة، ويكون الفرد في صراع حقيقي حتي يحسم أمره بحتمية التمرد الناعم على المحيط الاجتماعي، والناعم بمعني أنه تمرد البناء البديل، وليس تمرد الصدام و"الدونكيشوتية" أو مصارعة طواحين الهواء، تمرد العيش وفق منظومة قيم بديلة، وليس الصدام مع منظومة المحيط الاجتماعي التي يستكين لها غالبية أفراد المجتمع..

وهناك علاقة شديدة الصلة بين المكان وبين منظومة القيم، الفرد الضعيف دائما سيختبأ داخل المحيط الاجتماعي الذي نشأ فيه، حيث سيحظي بدفء القطيع ودعم النمط التلقائي، أو في دائرة المحيط الاجتماعي النفعي المستقرة قيم الفرز فيه وفق التقاليد العادية الموروثة لمنظومة التكيف في مجتمع ما، في حين ستجد الإنسان المتمرد الذي يبحث عن ذاته حقيقة في حالة حراك مستمر.. لا يرتبط بالمكان أو بالدوائر الاجتماعية على اختلافها، بقدر ارتباطه ببحثه عن ذاته واحتمالات الوجود التي لابد ان تكون بعيدة عن المكان النمطي الذي ولد فيه، والذي يكون بالتالي خاضعا لمنظومة العلاقات التقليدية، وبما إنه يكسر منظومة العلاقات التقليدية، فلابد له أن يكسر ارتباطه بالمكان أيضا، فالمكان ليس إلا الانعكاس لمنظومة قيم المحيط الاجتماعي..

المكان فلسفة، والوجود اختيار، ولكي يحقق الإنسان الوجود الحر لابد أن يتمرد التمرد الناعم على محيطه الاجتماعي، وإلا أصبح مدعيا، معجبا بفكرة دور المعارض! المتمرد ليس معارضا! المتمرد يصل لمرحلة التصالح مع الذات وينشأ عالمه الخاص بعيدا عن منظومة المحيط الاجتماعي السائدة، ولا يصطدم بها وينشأ عالمه بعيدا عنها..

وهنا تظهر مهارات "الاتصال والانفصال"، لكي يعيش الإنسان الحقيقي المتمرد على التنميط الاجتماعي، عليه أن يملك مهارات لـ"الاتصال" بالجماعة التي لابد ستكون نمطية، ومهارات لـ "الانفصال" عنها وهي مهارات تتوفر له بطبعه، لكن المهارة الأبرز ستكون في "الاتصال" بالجماعة كيف ينفصل عن الجماعة ويتصل بها في الوقت ذاته..! وهي فكرة البديل أو البناء الخاص الذاتي الذي يكون بمثابة العالم الخاص به، والذي لا يستعرضه ولا يثير بها الجماعة النمطية عند الاتصال بها..

التمرد الأول على المحيط الاجتماعي ومنظومة قيمه، التمرد الثاني بالخروج على المكان بما يفرضه من شبكة علاقات نمطية مرتبطة بمنظومة قيمه، والانتصار هو البناء البديل أو منظومة القيم البديلة ومهارة الاتصال والانفصال بالجماعة.