الثلاثاء 14 مايو 2024 - 02:31 مساءً - القاهرة

     

 

 

               

 

  أحدث الأخبار

 

 

  الأكثر قراءة

 
 
 

ما أسباب تراجع الأغنية

  ازمة صوت

  ازمة كلمة

  ازمة لحن

  غياب دور الدولة في تبني أصوات جادة


نتائج

 

 
 
 

قراءة في ديوان " أشاكس الأفق بكمنجة " للشاعرة/ ديمة محمود


إيهاب خليفة
الخميس 19 ديسمبر 2019 06:21:39 صباحاً



 

      بروح تبدو بدائية تمارس الشاعرة / ديمة محمود طوطمها المقدس، تستحضر عوالمها القادمة من نُثار الماضي، تلقي ذاتها في غمار الغابات كرمز للأسئلة التي تخمش الوعي، غير مرتاعة من مصير فادح يترتب على مجابهة الذكريات، منطلقة من فك أطر الذات و تعرية الآخر، لعقد قطيعة مع كل ما لا يتوافق مع وجودها المنتشي بلذات الحياة!، ومع بنائها المتخيل لعوالمها الحالمة بالخلاص.

     تعد قصيدة "إقامة في الغابة" ص 27بالنسبة لقراءتي إحدى قصائد الديوان ذات الدلالات المركزية، لذا أوردها أولا حتى يتسنى طرح الرسائل النصية التي تنبئنا بها الذات الشاعرة، إن هذه القصيدة تكاملت تكاملا مبهرا، بانتقاء كل مفردة بعناية بالغة، لتطرح لنا العالم الشعري لديمة محمود وفي هذا النص بصمة لا تخطئها العين لشاعرة قادرة على وضع نصوصها بالمساواة إلى جوار النصوص الخالدة، تقول الشاعرة / ديمة محمود:

 

" ولأنك الذي لن أنسى/ سأشعل البخور من أصابع النهر/ وأطوق جيدي بأصداف الكهنة/ وأشنف أذني بأقراط من تعويذات بوذا/ وأسرق مياه العرافة/ لأدير رحى جلسة الأرواح/ وأسمد التراب لشجرة الذكريات/ أقشر لحاء الانتظار وأفتله بالجوزة/ وستذهل غزلان الغابة/ من قبرات كثيرة فوق الأغصان/ تمط عنقها/ وتهدل بسوناتا تبخر النسيان "

 

    " إقامة في غابة"تطرح أسئلة كبرى، على سبيل المثال: أي إقامة لذات إنسانية في الغابة؟ أتصلح الغابة  للإقامة كوطن بديل؟! وهل الغابة فعلا غابة حقيقية كما يطرح العنوان المراوغ رغم تنكير اللفظين . ومن هذه الذات؟ أي قوة لها لتصبح الأفق الذي تنضوي الغابة تحت سيطرتها؟! الغابة أصلا ليست أفقا مفتوحا بل تخمة من أشجار/ أسئلة تعوق البصر/ حيز الإدراك/ حيز امتلاء الحواس بحقائق الوجود وانتفاء هذه الحقائق بحقائق غيرها، وإن كانت الغابة رغم ذلك تمنح المخيلة بعدا أسطوريا. ثم ما هذه الطقوس البدائية التي تشرع الذات في أدائها؟ حينما نتأمل النص نجد طقوسا استثنائية لاستحضار الذكريات واستدعاء الغائب جسدا، بإزاحة الكهنة كرمز فادح للحقائق المخبأة، في نص صم خصيصا ليظهر قدرة القصيدة/اللوحة، ومخاطبة الحواس بإيحاءات تربك الوعي.

سأعتبر هذا النص نصا مركزي الدلالات! لما يحتويه من رسائل ترسم تقاسيم عالم ديمة محمود الشعري و من الرسائل المخبأة في النص – والتي قد تتنامى من قراءة لأخرى وقد تتبدل - :

- في غابة المجهول/ السؤال بتوحشه، تقف ذات تستحضر عالمها بكل حفاوة.

- الذات لا تسدل الستار على الذكريات، باعتبارها شيئا منتهيا بل تجرجر الذكريات إلى الحاضر.

- الذات لا تفر من سذاجات الطفولة وبراءات الشباب وخذلان العاطفة.

- الذات قوية إذن تحصي خساراتها و لا تخجل من شيء، تستحضر الماضي بما يشبه تأمل المرايا لاكتشاف الندوب وعلى استعداد لدفع حياتها ثمنا لما تكتشفه كما تصرح في ص 105

 

لست بخير أبدا

ألضم نقطة المسافة بين الخطيئة والهاوية.

 

       غابة ديمة محمود تلك لها - إلى جانب نمط الغابة الظاهر- نمطان آخران مهمان في سياقنا هذا، هما :

1- البيت كغابة كارثية تقضي على عزلة الشاعرة وخلوتها بحبيبتها القصيدة وتمثله قصيدة " فراشة" فيها تتبدى الشاعرة كهدف خصب لكل هواجس الذات التي تهاجمها غابة الداخل المتخمة بالتساؤلات وهي تؤدي الأعمال المنزلة المتكررة؛ مما يجعلها تئد القصائد؛ فيصبح المطبخ مسرحا لجرائم قتل الكلمات، وهكذا تؤسس الشاعرة لحرمان كارثي يثقل هموم الشاعرة، تقول:

 

" كفراشة نيئة أحلق في بيتي/ وقتي الذي أقضيه في المطبخ أقطع بالسكين جزءا منه/ للشعر وراء الستارة/ لا يعلم أحد أن ثمة قصيدة انسكبت مني وأنا أغسل / الأطباق/ وأن إعصارا من الكلمات اجتاحني وأنا أطهو البامية/ أحيانا لا أجد تفسيرا لهذا الزخم/ الذي يعتريني وأنا أشوي السمك"

 

2- العالم الذي ينتهي نهاية دراماتيكية مفجعة ( وهنا نلاحظ أن الشاعرة لا تعبأ بأي إطار أو تقعيد للنص الشعري وتصنع عالمها الشعري بعيدا جدا عن التنظيرالواهي!)، في "صيوان"  تلمح إلى غابة العالم تلك التي تفني كل جمال وتلتهم أمن الوجود91:

 

" قلب النسر الذي سقط أمس/ لم يكن له/ كان حمامة طافت على العرش/ عبأتها رماح خريطة/ دم صخر/ صكتها كماشة شوك/ فرمتها سياجات الريح/ فهوت "

 

ويمثل نص " رسالة إلى سيلفر" ص23 نصا موازيا لتغول العالم وارتمائه بعيدا عن الكينونة الحقة للبشر فيه تطرح الشاعرة غابية الوجود العمياء المادية التي مسخت وجودنا المعاصر وحولتنا جميعا إلى قراصنة موتورين، لولا أنها تنص على أنها لن تتماهي أو تنزلق إلى هذه الهاوية :

 

" سأظل أردد خمسة عشر رجلا ماتوا من أجل صندوق/ وفي ليلة يصير فيها القمر بدرا/ لن أموت يا سيلفر من أجل الكنز

الشوق يدحرج المسافة لمجابهة البياض في لجة/ ثمة وقود خفي لا يدركه إلاي يصلاني في كل رضة/ يَنْتِشُ ذاتي في خابية التمرد/ فلن أسقط ولو صرت صلعاء وبلا أنف!"

 

    تساؤلات الشاعرة تلك تنقض مشاكسة كل أفق/ كل جبروت بالحبر الذي هو آلة الكمان ، تشاكس كل ما يحد من انطلاقها صوب تحققها بالحلم وانتشائها بمتعة العالم البدائي قبل تشكل الأعراف والأطر المرجعية، بل قبل تشكل الوعي بآدمية هذا الطين المسمى بشرا، إنها تود لو تتحد مع الطبيعة بدائية في صورة مغايرة نافضة عنها زيف البشر المقنعين بالمعرفة ، متناقضي التصرفات :

 

" أنا أتقيأ الآن/ نعم أتقيأ/ ألعن الجينات التي صنفتني للحظيرة الآدمية/ وأعارتني لهذا الهباء / أتمنى لو كنت قطة جرباء أوشيرازية/ أو كلبا مسعورا أو مهذبا/ لا يهم/ أتمنى لو كنت طيرا صغيرا/ أو ذبابة محملة بميكروبات مقالب النفاية "

 

هكذا تود الذات مغادرة آدميتها، لتهجر البشر الملونين بالغرائز رغم ادعائهم خلف ذلك، إنها تريد أن تنفض عن حياتها هذا الغبار البشري الملطخ بالدم والخيانات لتصبح وردة حرة الكيان، تقول في نص آسر عنوانه " الوردة " ص 13:

 

" الوردة لا تخضع للتمييز العنصري/ ولا تعترف بالهويات/ ولا تكيل بمكيالين/ الرائحة واللون في الوردة يصلان في نفس اللحظة/ بكمال وتساوٍ/ للبيض والسود وللمسالمين والعنيفين/ رغم ارتفاع وتيرة الزحام/ الورد مرحلة الشرنقة في احتشاد الموسيقى/ تتمرد على ذاتها بانتفاض حاد "

 

     ولما كان تبدل الهيئة مستحيلا محضا فهي تبتكر الأدوات التي تقربها من تغيير هيئتها كالحب والكتابة والجنون وممارسة الرقص في الطرقات كأنما تطرح أساليب لمغادرة الروح الجسد/القيد، لتصل إلى آفاقها اللامرئية، في نص " ديسمبر ونصف مظلة" ص21 تطرح الحب كترياق للروح لكي تحيا في توحدها بالآخر/الأنا،مكتشفة لذاتها : كقطرات مطر في ديسمبر/ لا تزال تسيل على زجاجي/ وبلا خدوش/ منذ قبلة طفولتنا/ واكتشافنا العبثي للذة والحب /بشفتين تمسك بنصف مظلة/ تحفر شوقها رغم المسيل/ في غبار الذاكرة وعشب التفاصيل .

    لدى ديمة محمود يقين كامل بقيمة الشعراء كحجر تأسس عليه بناء هذا العالم الجمالي المتحد مع موسيقى الوجود، لديها حقيقة كون الشعر مصيريًّا لكي يتنفس الوجود، و الكتابة عندها تحقق كينونتها الحقة، تقول في نص " موت شاعر" ص33 مستشرفة خواء العالم حين يغادره شاعر واحد حقيقي :

" شاعر يموت / يعني أن تعوج ناصية الطريق أكثر/ يعني أن تندلق ترهات من بطن اللامبالاة/ ويتكوم في الشارع الخلفي مزيد من الحفر والنفايات/ وتنثني أشجار الصنوبر والسنديان/ ويزيد الجلاد المقاصل في أهبة المجزرة"

 

هنا تتبدى لنا المقاصد الخفية المحرضة الشاعرة على الكتابة، تكتب ديمة محمود لكي لا يموت ما تبقى من العالم، تحيي ذاتها بالكتابة وتصون الحقائق بنصوصها وتقف مناوئة لكل جلاد متغول!، الجنون أيضا وسيلةُ تسامٍ لدى الشاعرة، حين يتدحرج الوعي بعيدا، يعود الإنسان إلى صورته النقية، رغم ما قد يحدث من فوضى في نسيج العالم، تقول في قصيدة " المجانين أكثر شغفا" ص 15:

 

" استبدل الشارات الضوئية بحلمات إفريقية/ وقدم للأولاد حلوى المارشملوز المصنوعة من مؤخرات / البدينات

ووزع على المراهقين لفافات سجائر من أصابع بنت الجيران/ ولصق عانات في مثلثات ولوحات المرور/ وأكل المعكرونة بخشبتي  صليب/ وهدهد مولودته في هلال مئذنة "

 

 

     وعلى جانب متمم لمحاولة الذات الانعتاق تشرع كثيرا في طقوس الرقص فيما يشبه التخلي عن الجسد بالتماهي مع الموسيقى و الرقص، تقول في نص " في عين اللؤلؤة" ص20:

 

" أرقص التنورة/ وأذوي عند ركبتيها/ أخبئ بلبلي وديعة لسنة/ بلبلي الذي احترق/ سأذروه في الهواء/ وأعود مرمدة العينين."

 

وفي نص آخر تؤكد على هذا الملمح ص24،حيث تراودها فكرة الرقص وساقها في الجبيرة معتبرة الجبيرة جدارا يعزلها عن الحرية والحلم و عن سياق أن تكون فاعلة في الوجود:

 

" سأكافئ نفسي برقصة زوربا كل يوم/ وسأظل أداعب الجبروت وأنا ألمع ساقي/ لأرتدي التنورة القصيرة/ وتهفهف ساقاي كالمرمر بين الخشبتين/ وأنا في الهواء الطلق "

 

نصوص كثيرة في ديوان الشاعرة ديمة محمود " أشاكس الأفق بكمنجة " تستحق القراءة الجادة الواعية، نصوص تعبئ الروح بزاد حقيقي من الشعر المونع ضوءا، الشعر الذي لا يسطع كثيرا في عالمنا المظلم بنصوص كاذبة معتمة .