الثلاثاء 14 مايو 2024 - 02:59 مساءً - القاهرة

     

 

 

               

 

  أحدث الأخبار

 

 

  الأكثر قراءة

 
 
 

ما أسباب تراجع الأغنية

  ازمة صوت

  ازمة كلمة

  ازمة لحن

  غياب دور الدولة في تبني أصوات جادة


نتائج

 

 
 
 

رحلات


د.اسماء الكتبي الإمارات
الاثنين 17 فبراير 2020 10:50:13 مساءً



 

عرفت الآن لم الأطباء النفسانيين يعودون بمرضاهم إلى طفولتهم البعيدة! لأن ما يحدث بها لا ينسى أبدا، كتذكري لتفاصيل أول رحلة بحياتي، حين زرت بغداد في طفولتي عام 1975م. فإلى أن أمسكت بالقلم لأكتب هذا المقال، لم أتصور أني سأتذكر كل هذه التفاصيل، عن ذلك الزمن السحيق من عمري..

في صباح يوم من أيام يوليو القائظة، أتاني خالي وقال: رتبي حقيبة ملابسك، ستسافرين معي لبغداد، ظننت أنه يمزح، فتصلبت مكاني بلا تعليق، قال لي محمسا: هيا بسرعة، ستذهب عنا الطائرة! نظرت إلى أمي التي أكدت ذهابي معه، لكنها لم تؤكد أن الطائرة ستفوتنا. لا أذكر تفاصيل الحجز، لكني أذكر بأني ذهبت للمطار مرتين، في المرة الأولى فاتتنا الطائرة فعلا، فقام أبي الخبير بأمور السفر والحجوزات بتعديل الحجز، لتتحقق رحلتي للعراق في المرة الثانية، بعد أن اعتقدت بأني منحوسة، وأني لن أسافر، بل أختي التي تصغرني بعام شمتت بي

في رحلتي للعراق رأيت أشياء كثيرة لأول مرة في حياتي، ابتداء من الطائرة وحمامها، نهاية بالجسور والأنفاق، وحدائق الألعاب، وسأبدأ بالطائرة، تبعا للتسلسل الزمني، والرجاء حين قراءة هذه السطور التذكر بأني كنت طفلة في الثامنة، في السبعينيات من الألفية الماضية، أي بعقلية طفلة في الرابعة من أبناء هذه الألفية، فالرجاء عدم الضحك أو الابتسام، حتى وأن قصدت أنا رواية ما حدث في تلك الرحلة من أجل إضحاككم، لا للتقليل من شأن تلك الرحالة المبتدئة، التي هي أنا.

لأنها المرة الأولى التي أسافر فيها بالطائرة في حياتي، لم يكن لي علم مسبق بمحتوياتها؟! وبمعنى أدق لم أكن أعرف أن "الأدب"\"بيت الأدب" كما كنا نسميه، أو الحمام كما يسميه متعلمين ذلك الوقت، وأطفال هذه الأيام، كان مرفق رئيسي من مرافق الطائرة. لا أذكر السبب الذي من أجله امتلأ بطني بالماء، لكني أذكر النتيجة التي ألحت عليّ ضرورة الوصول لـ"الأدب"،  ففي تصوري الطفل لم يكن بالطائرة وجود لهذا المرفق الضروري، ولم تكن المشكلة هنا فقط، بل كانت في البوح لخالي مما أعانيه، فنحن في تلك الحقبة من تاريخ إنسان الإمارات، كنا نخجل عن البوح بالرغبة في قضاء حاجتنا الفطرية، وبعض الإماراتيين حتى الآن يمارسون عادة الحرج من الاستئذان للذهاب للحمام! وبما أنه لا يوجد وسيط بيني وبين خالي الذي أحترمه، صَعّبَ علي احترامي البوح، ومنعني من أن أخبره أني مثل كل الناس، بي حاجة للحمام، فصَبرّتُ نفسي محدثتها: بأننا سنهبط بعد دقائق في بغداد، وسيكون هناك "بيت الأدب"، و"بيت الخلاء" .. وكل المرافق الضرورية التي ينفس بها الإنسان عن نفسه.

لكن الدقائق التي فصلت بين ضرورة وصولي للحمام وموعد الهبوط كانت كثيرة، بل أن علتي جعلت الدقائق طويلة فوق كثرتها، فصرت "أتحرقص" في مكاني، أي أتلوى، فسألني خالي: هل تشعرين بالبرد؟ فأجبت: بنعم، معتقدة أن معنى سؤاله: هل تودين الذهاب للحمام؟ لكن بطريقة في غاية التهذيب. أشار على زر طلب المضيفة في سقف الطائرة، وقال لي: أضغطي على ذاك الزر.. دون تخيل للذي سيحدث، وبطريقة آلية توحي بطاعتي لخالي، ضغطت على الزر، فشب ضوءه، لكن لم يظهر لي حمام!! بعد لحظات جاءت المضيفة، أخبرها خالي بأننا نريد بطانية لي، ولأنها المرة الأولى التي أسمع بها لفظ "بطانية" في حياتي-فنحن نسمي اللحاف "كمبل"، أو لحاف- اعتقدت أنه يعني "قيصرية"، والقيصرية لفظ محلي، يطلق على الوعاء الذي يستخدم لتعليم الصغار قضاء حاجتهم خارج سراويلهم، وبما أن البطانية لفظ مشتق من بطن، والبول (كرم الله القراء والملائكة) ينحصر أسفل البطن، ربطت بين الاثنتين.

 حين راحت المضيفة لتحضر البطانية، صرت أتساءل أين سأضع القيصرية؟ هل هنا بين المقاعد؟ وهل سيقف خالي متوجها إلي بظهره ليحجز الآخرين عني؟ دقائق، وعادت المضيفة باللحاف، فقلت لنفسي: آه أذن سأتغطى به حتى لا يراني الناس!

لم أكن أدري أن مهمة المضيفة قد انتهت، وأنها لن تعود بالقيصرية، وعلتي لم تمنعني من التقلب في مكاني تحت اللحاف وأنا أنتظرها، فسألني خالي بشكل مباشر: هل تودين الذهاب للحمام؟ فقلت بشكل صريح: نعم، فقال لي: أضغطي على نفس الزر. ضغطت، جاءت المضيفة، فطلب منها خالي أن تأخذني للحمام.

كانت تلك أول مرة أرى بها حمام "الكرسي"\افرنجي، ففي ذلك الوقت كانت البيوت المتقدمة في الإمارات بها حمامات عربية، والبيوت القديمة الطراز، حماماتها عبارة عن حجرة صغيرة تتوسطها طابوقتين من الحجم الكبير بينهما حفرة ضيقة وعميقة، لا أدري إلى أين تصل!!

لم يكن طراز الحمام وحده المشكلة، بل ضيقه أيضا، الذي جعلني أغلق باب الحمام دون أن أقفله، خوف أن لا أستطيع فتحه، دقت المضيفة الباب، وأكدت لي أنه يجب قفل الباب، وإلا دخل الآخرون علي، قفلته، لأنتهي من تلك العلة التي كانت بي، وانتهيت، لدرجة أني نمت بعدها مرتاحة. لم أصحو من غفوتي إلا ونحن ننزل من الطائرة. لم يكن مطار بغداد مزدحما كما هي مطارات العالم اليوم، والمثير أنه أضحت هناك ألفه بين ركاب الطائرة جميعا، فصاروا يعرفون بعضهم البعض بالأشكال على الأقل، وليس بالضرورة بالأسماء.

.د. أسماء الكتبي

asma@uaeu.