الثلاثاء 14 مايو 2024 - 05:29 صباحاً - القاهرة

     

 

 

               

 

  أحدث الأخبار

 

 

  الأكثر قراءة

 
 
 

ما أسباب تراجع الأغنية

  ازمة صوت

  ازمة كلمة

  ازمة لحن

  غياب دور الدولة في تبني أصوات جادة


نتائج

 

 
 
 

رحلات


د.اسماء الكتبي الإمارات
الاثنين 24 فبراير 2020 10:09:35 صباحاً



 

بغداد 1

لاأدري ما الذي جناه خالي من إصطحابي معه للعراق ،أنا بالطبع جنيت فوائد كثيرة أهمها أني حين عدت في خريف 11975 من رحلتياليها ، لم أكن أقل من زميلاتي في الصف الثاني الابتدائي، اللاتي سافر معظمهن لبلدان عربية.

تحمل خالي مسئوليتي في السفر، فلقد كنت صغيرة على إشعال النار، لذلك كان هو من يحضر الطعام، وبدأ ذلك من يومنا الأول، فحين صحوت صباحا، وجدته حضر لنا الشاي، وطريقة تحضيره للشاي تختلف عن طريقة أمي، ففي الإمارات نحن نحضر شاي الصباح كاملا (أي الشاي والحليب والسكر مغليين على النار) ثم نصبه في "دلة"\ترمس ليظل ساخنا، ونصب منها لمن يرغب، لكن خالي وضع الأكواب خالية، والسكر في وعاءه الخاص، والحليب (أبو قوس) في علبته، والماء الساخن في ترمس، وأكياس الشاي (لبتون) مفردة، على تخلط مع بعضها البعض حسب الرغبة من السكر والحليب، ولأنها المرة الأولى التي يقدم بها لي شاي بهذه الطريقة، صار خلط محتوياته لعبتي، التي تنتهي بشربه بالملعقة، وبخني خالي بعد وقت، فصرت ألعبها خلسة، من وقت لآخر، فشرب "الشاي حليب" ساخنا بالملعقة لذيذ جدا.

لم يكن خالي في مزاج للطبخ في أول يوم لوصولنا بغداد، وكنوع من الترفيه أيضا اصطحبني لمطعم. لم يكن لدى خالي سيارة في العراق، لأنه أصلا لم يكن يحمل رخصة سواقة، فهي لم تكن ملحة في ذلك الزمن البعيد، وخالي من أولئك الناس الذين يهتمون بالفكر، أكثر من تعلم قيادة السيارات، لذلك كانت جميع مشاويرنا في سيارات أجرة. قبل الغداء تجولنا في سوق شعبي، أشترى لي منه حذاء جديد، مازلت أذكر رائحته، رائحة الجلد الطازجة، غير أحذية البلاستيك التي تباع لنا بمئات الدراهم اليوم، لكني لا أذكر السبب الذي من أجله أشتراه لي، فأنا أكيدة أني لم أذهب للعراق حافية!

في ذلك السوق دخلنا مطعم، كانت تلك المرة الأولى التي أتذوق بها طعام غير الطعام الإماراتي، وبالرغم من أن غداءنا كان أرز ومرق، لكنه كان بنكهة عراقية مختلفة عن النكهة الإماراتية، لا أستطيع أن أصف الفرق، لكني أعرف أنه في اختلاف نوعية البهارات، وطريقة الطهي.

أثناء الغداء قال لي خالي نكته لا يمكن أن أنساها أبدا، حتى وأن هرمت وأصبت بالزهايمر، سأظل أذكرها، وحتى لا يشغل بالكم لمعرفتها سأكتبها، وأن لم تثر إعجابكم، لا تستغربوا بأني أحفظ نكتة تربطني بخالي، وتذكرني بالمكان والموقف! كانت نكتته عن شخص يتردد على المطاعم كثيرا، وغالبا ما كان يتهرب عن الدفع، لذلك يطلب مرق في كل مطعم يدخله، وفي ذات مطعم لم يكن المرق من ضمن لائحة الطعام، فأخرج الزبون المتهرب من جيبه فأر، وسأل النادل مستفهما: في هذه الحالة قل بأي طبق أستطيع وضع هذا؟!

سار بي خالي في ميدان لا أعرف أسمه، لأني لم أكن أعي حينها أنه مهم معرفة أسماء الأماكن التي نراها، "فسكيك" الإمارات لم تكن تحمل أسماء، وبعض بيوتنا حتى اليوم لا تحمل أرقاما! في ذلك الميدان، مشينا فوق نفق، وتوقفنا عند رأسه، وأنا أنظر مشدوهة للسيارات وهي تدخل أو تخرج منه، فالشيء الوحيد الذي كنت أعرفه يخرج ويدخل في ثقوب من فعل الإنسان كانت الصراصير، في حمامتنا القديمة، التي لم يخترع حينها "البف باف" للتخلص منها.

في عصر يوم من أيام الأسبوع الأول لوصولنا، أخذني خالي لنادي طلاب الإمارات، حين عرفت بأننا ذاهبين للنادي، وجدت أن هذه معضلة، فأنا لا أتقن لعبة التنس، لكن حين وصلت، وجدت أن النادي عبارة عن بيت، والطلاب الإماراتيين يجتمعون فيه لشرب الشاي وقراءة الجرايد والمجلات، وربما للنميمة إلى حد كبير، لكن لا يوجد مكان للتنس، كما كان يوحي لي لفظ "نادي" في الأفلام المصرية.

وفي عصر يوم آخر اصطحبني إلى حديقة ألعاب، وكانت تلك تجربتي الأولى، فما أرويه كان قبل افتتاح منتزه الشارقة، أول منتزه في الإمارات، بل مدينة الألعاب كانت جديدة حتى على خالي، لذلك حين ركبت لعبة السيارات الطائرة، لم أعرف كيف أطير بها، فرغبة الإنسان بالطيران فطرية، مجسدة في ابن فرناس، لكن تعلم استخدام آلة الطيران هو المكتسب! نادتني سيدة عراقية جميلة من سيارتها الطائرة، بعد أن هبطت لمستوى سيارتي، وهتفت لي محمسة: جُري، جُري، أي اسحبي.. أسحبي،  نظرت إلى تلك السيدة التي كانت ترتدي عباءة متسائلة: أجر ماذا؟ فنبهتني أن هناك عصا في السيارة لو سحبتها باتجاهي ستطير بي السيارة عاليا، وفعلت، لكن وقت اللعبة أزف بسرعة، بعد أن تعلمتها. الآن أتساءل: أليس غريبا أن تكون قيادة الطائرة اللعبة، بنفس طريقة قيادة الطائرة الحقيقية؟! فحين تعلمت مبادئ الطيران في نهاية التسعينات، وجدت أن الأمر سيان، لتقلع الطائرة وترتفع، يجب سحب مقودها للأمام!

في بعض الأمسيات كان خالي يأخذني لنجلس على ضفة دجلة، بالقرب من أحد الجسور المشهورة في بغداد، مثل معظم سكان بغداد الذين كانوا يجلبون عشائهم، ويتسامرون، أما أنا وخالي فكان سمرنا غناء خالي، فما الذي كان سيناقشه مع طفلة في الثامنة؟! كلما ذهبت لضفاف دجلة، شعرت بأني في منطقة النخيل برأس الخيمة، حتى أني شممت خضرة النخيل المثمرة، لا أدري أن كان ذلك بسبب رائحة العشب الطازجة، أم تشابه التربة بينهما! بعد أن تخصصت في الجيمورفولوجيا عرفت أن الرواسب الفيضية واحدة، سواء للأنهار أو الأودية، فضفة دجلة تجلس على مجرى نهري قديم، ومنطقة النخيل تقع على رواسب فيضية قديمة لأقدام مروحة وادي البيح