السبت 18 مايو 2024 - 09:35 صباحاً - القاهرة

     

 

 

               

 

  أحدث الأخبار

 

 

  الأكثر قراءة

 
 
 

ما أسباب تراجع الأغنية

  ازمة صوت

  ازمة كلمة

  ازمة لحن

  غياب دور الدولة في تبني أصوات جادة


نتائج

 

 
 
 

رحلات


د.اسماء الكتبي الإمارات
الخميس 05 مارس 2020 05:11:22 صباحاً



بغداد 2

بعد ان عدت من العراق بسنوات عديدة، وقع في يدي جواز سفر أمي، فوجدت فيه هاتين الجملتين في صفحتين مختلفتين من الجواز: خرجت الطفلة أسماء من المطار، عادت الطفلة أسماء للمطار، ففي عام 1975 لم يكن للأطفال الإماراتيين جوازات سفر مستقلة، لذلك سافرت بجواز سفر أمي، بصحبة خالي، الذي أعجب الآن بالطريقة الحنونة التي عاملني بها أثناء وجودي معه في بغداد، لقد كان واسع الصدر، وحاضر البديهة والنكتة، وهذا طبيعي لأننا حين نكون طلاب نكون أقل انشغالا، عما نكون عليه حين نصبح موظفين ذوي مسئولية.

وخالي لم يكتفي بالاعتناء بي فقط، بل منحني فرصة التعرف على ثقافة عربية إسلامية، مختلفة في كل شيء عن ثقافتنا الإماراتية العربية الإسلامية، وفوق ذاك كانت متقدمة علينا عشرين عاما على الأقل، حين كنا نحبوا، سواء نحو العلم أو التعمير.. وهذا طبعا غير حالنا اليوم، فنحن اليوم متقدمين تقنيا على العالم العربي بعشر سنوات على الأقل.

ولم يكن لخالي وحده الفضل في التعرف على معالم بغداد الثقافية، بل كان لجيرانه فضلا آخر، ففي ذات الأسبوع لوصولي لبغداد عرفني إليهم، ليبقيني عندهم حين يذهب للجامعة صباحا، لكن بعد فترة وجيزة صرت أزورهم في المساء حين ينشغل عني بالمذاكرة.

بنات جيراننا "سهاد" ووداد" كن أكبر مني بكثير، بعشر سنوات أو أكثر، وبالرغم من هذا لا أذكر أنهن تضايقن من ثرثرتي، بل كن يحفزنني على الثرثرة، ليعرفن أكثر عن الإمارات، كن يستمعن إلي بشغف، بالرغم من ضحالة معرفتي كطفلة، فلقد كنت مصدر معلومة لجغرافيا وثقافة وسياسية مختلفة عن جغرافية بلدهن وثقافتها ونشأتها، فتلك الحقبة كانت نقطة تحول في تاريخ الدول العربية، كل يوم تستقل دولة عربية، أو تظهر دولة جديدة، ولعدم وجود وسائل الإعلام الفضائية والشبكية، كان نقل المعلومة عبر الأشخاص أكثر فعالية من الإذاعة أو الجريدة. وهذا يشبه ما يحدث لي الآن حين أزور بلاد بعيدة، لا يعرف سكانها الإمارات، لكن يتذكرون صور عنها حين ألفظ كلمة السر: "دبي". أما بالنسبة لجارتي الشابتين كانت "عمان" هي البلد اللامع في أذهانهن، كانت لديهن صورة غيرة واضحة عن اتحاد ولايات في عمان، ولأنني على يقين بأني لست عمانية (بالرغم من أن أصل الكتبيين من هناك) كنت أصحح لهن: أنا من رأس الخيمة، وهن يحاججنني أن رأس الخيمة في عمان. فصحح خالي تصريحاتي: بأني من رأس الخيمة، التي هي إحدى إمارات دولة الإمارات

كان "فيصل" ابن أخيهن يصغرني بسنة أو اثنتين، وأنا أكتب عنه الآن تنبهت أنه الصبي الوحيد الذي عرفته ولم يعاركني على شيء، بل كان يتقاسم الأشياء معي، لا أدري أن كان ذلك بسبب تربية أمه الصالحة، أم لأني كنت أكبر منه فكان يهابني، بالرغم من ضخامته.

أما والدة الشابتين فكنت ألاحقها وهي تعمل في البيت، فتعلمت منها تقنية صنع عقود البامية، التي كانت تحفظ مجففة لفصل الشتاء. كما كنت أذهب معها نشتري حاجيات البيت، أذكر أن لبن "عيران" يباع في يوم الجمعة فقط، لذلك كان شحيحا في السوق، الآن أستطيع أن أفهم السبب، لأن العراق ببساطة كانت تنتجه ولا تستورده، كما لا تستورد بضائع كثيرة، غير ضروري استيرادها، وأن استوردوها تكون أسعارها باهظة، وأظن أن هذا يفسر لي مشهد الرجل الذي كان يحمل زجاجات مشروب كثيرة أشتراها من الطائرة، لكنها وقعت وتحطمت عنه في مطار بغداد، أظن أنه أشترى كميات كبيرة منها، لأن سعرها على الطائرة أرخص، ربما لأنه بلا ضريبة، على العموم للعراقيين منتجهم المحلي من المشروب\الكحول، يدعى "عرق"، لونه أبيض، وخفيف مثل الديتول بعد أن يخلط بالماء.

من يستطيع أن يأمن جاره على أطفاله هذه الأيام؟! لكن في تلك الأيام أمن خالي من جيرانه، وأمنت أنا على نفسي معهم، ووثقوا هم بصفاء نيتي ليأخذوني حتى لمزارات الشيعة بالرغم من أني سنية. عند ركن من أركان ضريح حوط بسور "مشربية" من الخشب، منقوش بنقوش إسلامية قلن لي: أدعي أي دعاء وسيستجاب لك، في تلك السن لم تكن لي أي متطلبات، لذلك لم أدري بم أدعو، واكتفيت بقراءة كل السور التي أحفظها، حتى يرين شفاهي تتحرك، وحين اندمجن عني بالدعاء جالت عيني في المكان تتفحص المبنى الرائع العمارة من حولي، فلا أنسى النسيم البارد الذي كان يعم المزار، بالرغم من أننا كنا في فصل الصيف، الذي لا أعتقد أن له علاقة بالمكيفات، بقدر ما له علاقة بهندسة البناء نفسه، فالتكييف لم يكن منتشر في العراق، لأنه لم يكن منتشر بأي مكان في العالم كحاله اليوم، أذكر أن العراقيين يبيتون فوق سطوح المنازل، أما فناء البيت فلقد كان به حدائق الورود، يقضون فيها أمسياتهم.

أذكر أني قبل جيراني كنت أحسب الأيام الباقية لي للعودة للإمارات عشرات المرات في اليوم الواحد، لكن بعد أن تعرفت إليهم، تمنيت لو أن أيامي تطول هناك. يوم عودتي أهدتني جارتي نظارة شمسية، وكانت تلك المرة الأولى التي أرتدي بها نظارة شمسية في حياتي، بالإضافة لعلبة بها قلائد كثيرة، سرقها مني بنات الجيران بعد أن عدت للإمارات، غيرة من اقتنائي لها

اسماء الكتبي asma@uaeu.ac.ae