الجمعة 19 أبريل 2024 - 10:31 صباحاً - القاهرة

     

 

 

               

 

  أحدث الأخبار

 

 

  الأكثر قراءة

 
 
 

ما أسباب تراجع الأغنية

  ازمة صوت

  ازمة كلمة

  ازمة لحن

  غياب دور الدولة في تبني أصوات جادة


نتائج

 

 
 
 

يوسف إدريس.. الانحياز للمرأة


د. زينب العسال - تقاسيم
الجمعة 14 أغسطس 2020 12:05:28 صباحاً



 عندما تحل ذكرى يوسف إدريس يكثر الحديث عن دوره فى حياتنا الثقافية، عن منجزه القصصي: هل أهله لأن ينال هذه المكانة الرفيعة التي تفوق بها على أترابه من جيله. فظل "إدريس " هو النجم المتألق.

كان إدريس وهجًا على المستوى الإنساني والمستوى الإبداعي. أعتقد أن طفولته هى المنبع الذى استمد منه معظم أعماله القصصية ، منذ أولى مجموعاته " أرخص ليالي" إلى روايته التي لم تكتمل " ملكة"، وتعد المرأة - أمًا وزوجة بالتحديد - تكوينًا أساسيًا فى شخصيات إدريس. وقد قال بعض النقاد إنه تأثر فى رسم شخصية الأم والزوجة، أو المرأة عامة، بعلاقته بأمه منذ الطفولة، تلك العلاقة التى اتسمت فى أكثر الأحيان بالتوتر والجفاء وانعدام الشعور بالحنان والاستمالة من جانب يوسف إدريس، والصد من جانب الأم.

يربط النقاد بين صورة الأم كما رسمها يوسف إدريس وبين علاقته هو بالمرأة. مرجعهم فى ذلك رواية " البيضاء" التي نشرت عام 1970 في بيروت، حيث يعود الراوى " إدريس " إلى قريته " سافرت إلى البلد، وطالعنى كل ما أعرف سلفًا، وقوبلت بما تعودت أن أقابل به، استقبلنى أبى وأخوتى بمظاهرة هائلة مرحة، ولكن أين الأم؟ دائمًا أفتقد أمي في تلك المظاهرة، وأعرف أنها كالعادة غاضبة على لأى سبب أو بلا سبب. إنها جالسة متناومة، أو متمارضة، ولابد لي أن أذهب وأقبل رأسها، فتقز منى، وأعود أقبل يدها فتسحبها بوجه صارم، تحاول صاحبته أن تمنع أى بادرة انفعال أن ترسم عليه، إلى أن يصف العلاقة بأنها ليست علاقة حب ولا علاقة كره، بل إنه كان فى أحيان كثيرة يشك " إن كانت أمى حقيقة، فلم أكن أبدًا أحس أنها أمي".

 إذا سلمنا بأن يوسف إدريس نقل لنا بصدق على لسان بطل روايته " البيضاء" د. يحيى مشاعره وأحاسيسه، وما اختزنه اللاشعور منذ الصغر تجاه علاقته بأمه، وانعكس هذا واضحًا جليًا فى علاقته بالمرأة، فإنها اتسمت العلاقة بالتوتر " وانتقل الوضع نفسه إلى علاقاتي بكل من عرفت من غيرها من النساء، أكره الضعيفة، وأشمت في القوية حين تضعف، وبيني وبين الضعيفة والقوية والجنس كله صراع لا أعرف متى ينتهى، ولماذا أنا سائر فيه" -" البيضاء "

 وتأتى الأسئلة ملحة: هل أثرت هذه العلاقة في رسم صورة المرأة، فتاة وزوجة وأمًا عند إدريس، وبأي رؤية قدم إدريس المرأة في أعماله؟ وهل كان محايدًا عندما صورها في أعماله الأدبية، أو أنه اتخذ موقفا منذ البداية يتفق وعلاقته الموتورة بأمه؟

 على لسان بطل قصته " مسحوق الهمس" يسجل يوسف إدريس موقفه من المرأة، فهى حرب دامية بدأت " منذ يوم مولدي ومع أول امرأة عرفتها: أمي، حرب، انتهت بخوفي من المرأة إلي درجة عبادتها، والحقد عليها إلي درجة الرعب المقيم أن يتحول الحقد إلى حب فأودعته كل شوقي المريض إلي المرأة منذ كانت أمي إلي أن أصبحت غريمتي وعشيقتي".

لقد أفسح يوسف إدريس مساحة كبيرة في أدبه لتصوير المرأة، وتقديم نماذج متباينة منها منذ أن قدم أولي مجموعاته القصصية " أرخص ليالي".

ففى قصة " أبو سيد" ( مجموعة أرخص ليالي ) يصاب رمضان عسكري المرور بالعجز الجنسي، فيفقد القدرة على معاشرة زوجته، ويبدأ رحلة البحث عن رجولته المفتقدة، وعندما تفشل المحاولات يصارح زوجته بما انتوى أن يفعله لكى يخلص ذمته من الله، ترفض الزوجة مجرد الحديث عن الطلاق، وتذكره بابنها " سيد" فالرجل فى خضم محنت، وبحثه  الدائم عن رجولته،     نسي ابنه، وفى نهاية القصة يتمني الرجل أن يكبر الابن ويتزوج امرأة، بل أربع نساء، المرأة في قصة "أبو سيد" تساند زوجها، وتقف بجواره ترقبه في رحلة علاجه، وتساعده في استعادة رجولته، أو توازنه النفسي، والرضا بحالته، بعدما فشلت كل الوسائل في عودة رجولة الرجل، يجد الحل في الطلاق، بينما ترى أم سيد الحل في التفكير في مستقبل الابن، يوسف إدريس يرصد مشاعر الزوجة وأحاسيسها، ترفض الطلاق، وترى أن صلة الزوجين تتجاوز العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة، فالزوجة تشعر أن القضية هي مسألة نفسية، وما حدث للرجل كان له صداه المباشر في تعامله مع الناس، والزوجة، وموقفه من الواقع المحيط به، الرجل يتأرجح صعودًا وهبوطًا مع ظهور أى بارقة أمل أو تلاشيه، بينما موقف الزوجة ثابت لا يتغير، وهذا ما جعل الرجل يجد نفسه فى امتداده الطبيعى " ابنه" فرجولته موجودة طالما أن ابنه " سيد" موجود.

وفى قصة " الحادث" سافر عبد النبي أفندي وزوجته تفاحة لمشاهدة معالم القاهرة، وهي الزيارة الأولي لها، " كانت لاهية عن كل شيء إلّا نساء مصر ولحمهن المكشوف، وعيونهن التي تحدق في قحة وفجور ناحية الرجال دون أدني خجل أو كسوف، لكنها تكاد تفقد صوابها حينما تري صبيًا أشقر يجدف وسط النيل، فهي تخشي علي الصبي من الغرق: ويحاول زوجها تهدئة روعها، فلا بد أن يكون الصبي خواجة مش معقول ابن عرب، كان هم تفاحة طوال الوقت كيفية إنقاذ الولد. كانت متأكدة أنه حالًا سيغرق في ذلك البحر الواسع الذي لا قرار له. بعد عودتها إلي القرية تعلم تفاحة أن أولادها استحموا في الترعة، فيكون ذلك سببًا كافيًا لعقابهم بالضرب، أما عبد النبى فكان يحلم بأن يري ابنه" محمد" يركب - يومًا- قاربًا وحده، عابرًا النيل في ملابس بيضاء نظيفة، الأم الجاهلة تنساق وراء فطرتها، ومن ثم تغلب عاطفة الأم، وهي تري تراخيًا، وعدم تحمل للمسئولية من أبوي الطفل، التربية عندها تنحصر في كيفية المحافظة علي الأبناء من المخاطر، ويكون ضربها لأولادها نتيجة هذا المفهوم الخاطئ في التربية ورعاية الأبناء، ورغم ذلك فلا يمكن أن ننكر طيبة هذه الأم وحنانها، وأن كان تفكيرها قاصرًا لجهلها، يوسف إدريس يصور الأب رجلًا متعلمًا.. يعرف التربية الحديثة ومزاياها، وأهمية أن نترك للأبناء بعض الحرية في التصرف، ونعودهم علي ارتياد المخاطر، وممارسة الرياضات المختلفة.

فى قصته الطويلة " قاع المدينة" التي تقف على حافة الرواية، يفقد القاضي ساعته، وللوهلة الأولي يظن المتلقي أن القصة تتتبع رحلة استعادته لتلك الساعة، وبينما أرى أن القصة هى قصة شهرت الخادمة، قصة المرأة وعلاقتها بالقاضي من جانب والمجتمع من جانب آخر، أعتقد أن يوسف إدريس لم تكن قضيته ضياع الساعة أو حتي سقوط شهرت نفسها، بقدر اهتمامه بتقديم قاع المدينة بما تحمله هذه العبارة من معان ودلالات قدمتها القصة بوضوح واقتدار. شهرت في القصة تمر بعدة مراحل يرصدها المبدع بدقة من خلال علاقتها برجل الطبقة البورجوازية، وهو هنا يمثل المغاير والمقابل لقاع المدينة، فمن خلال هذه العلاقة تنفجر مأساة المرأة مرهصة بما سيحدث لها في النهاية.  القاضي رجل سئم علاقاته مع بنات طبقته، وهو ينشد التغيير، فلماذا لا يجرب واحدة من هؤلاء الناس الذين ينتمون إلي قاع المدينة؟

وجد القاضي فى علاقته مع شهرت ضالته المنشودة، أخذ كل شيء بذراعه، ولم تكن نقوده ولا أدبه ولا مركزه هي التي انتصرت، إنما قبضته وقوته هي التي جذبت له النصر " بدأت العلاقة بشهرت أمرًا ممتعًا منطلقًا علي سجيته معها، أصبحت بالنسبة إليه شيئًا كالمرتبة الحية التي يتمرغ عليها ويتثاءب ويتمطي ويعري ساقه، وبدأ رحلة البحث عن إثارات أخري. أما عن شهرت فقد كانت تراوغ حتي ترسم علي وجهها ابتسامة شاحبة، فيها خجل ضعيف، وقليل من الفتور، وكثير من التسليم بالأمر الواقع والقضاء والقدر، وصار وجه شهرت وجه امرأة عادية بالنسبة لعبد الله، صارت تحت أمره في أي وقت وكل لحظة، وأصبح جسدها في يده كالورقة المهملة التي يستطيع - متي شاء- أن يكورها ويلقيها في سلة المهملات، كانت مشكلة عبد الله تكمن في أن يكون رجلًا لامرأة، أية امرأة، ولو كانت شهرت، لكن خاب مسعاه عندما لاحظ فرحها عندما ترك لها باقي النقود، وحينما علم بطبيعة عمل " منعم" زوج شهرت، كان إصرار عبد الله علي أن يتخلص من شهرت بأي ثمن، غدت العلاقة تؤرقه، فهي تشكو عجز الزوج، ومرض الأبناء، وقلة المال

أما المرحلة الثالثة والأخيرة فهي احتراف شهرت للدعارة، لقد أبانت ملامح شهرت عن احترافها الدعارة، غارت أجزاء من ملامحها، وبرزت أجزاء، ودخلت عيناها في وجهها، وحولها دوائر علامات تدل علي تحول أصابها، حتي ابتسامتها لم تعد بسيطة ساذجة، بل أصبحت تحمل جزءًا صناعيًا ملحقًا  بها ومفتعلًا، ثم تحولت علاقتها بالقاضي، فأصبحت تحدق فيه، وتغضب، وتناقشه، وترد علي حججه بحجج أخري، وتنتهي هذه المرحلة برفض عبد الله إقراضها جنيهًا لشراء بلوزة جديدة، فتسرق ساعته. كان كل ما سبق من وصف وسرد أحداث تمهيدًا لتصوير واقع شهرت من خلال علاقتها بالقاضي، منذ خروجه من شقته في شارع الجبلاية " بالزمالك" الذى وصفه الفنان في سبعة أسطر فقط، مر عليه سريعًا، وكأنه يمضي فوق بساط من حرير، وكلما تقدم نحو الشارع القائم فيه بيت شهرت نجد الصراع يصل إلي قمته، فهو يصف حركة الناس في الشارع، وتسمع صراخ الكلاكسات وزمامير الكمسارية، وتصبح قيادة العربة عذابًا، والشوارع أول الأمر مستقيمة ذات طول وعرض وأسماء مشهورة، وأسفلت واضح و" تلتوار"، والبيوت علي الجانبين مزدوجة ومكدسة، لكنها بيوت لها أرقام إلخ، ويتقدم، وتضيق الملامح، وتغمق الوجوه، وتنبت اللحي، وتغزر الشوارب، وتتناقض الملابس " إلي أن يصل حارة السد بعد ست صفحات من الوصف والتقاط جزئيات الفقر ومظاهره ببراعة مذهلة، فالفقر له أيضًا درجات متفاوتة بشكل كبير إلي أن نصل لقاع المدينة المتمثل في الحارة، حيث تقطن شهرت وأسرتها " فالبيوت تتساند، والناس هي الأخرى تتساند حتي تنهار ويعيش الناس في الطين مع الذباب والقاذورات والخراب والعري، وتري للفقر لونًا كالحًا، وتجد له طعمًا مرًا، وتشم رائحة عفنة، فهو غول مرعب له أنياب ينهش الناس، ويحاصرهم في حارة السد، وكأنه لا مهرب من المصير المحتوم والفقر شامل وجائم ومسيطر "( فؤاد طلبة)

 وفى قصة " حادثة شرف" يقدم لنا يوسف إدريس أزمة البطلة " فاطمة"، فهي معروفة، وكل شيء عنها معروف، ولم تكن أبدًا ذات سيرة خبيثة أو سلوك معوج، كل ما في الأمر أنها حلوة، أو علي وجه أصح كانت أحلي بنت في القرية، فاطمة لم تتزوج لأن خطابها قليلون، بل تكاد تكون بلا خطيب، فمن هو المجنون الذي يجرؤ علي امتلاك كل تلك الأنوثة وحده، وإذا تزوج ماذا يفعل بها؟

لا تكمن أزمة فاطمة في قلة خطابها رغم جمالها، ولكن ما حدث لها كان على القرية كلها أن تعرف حقيقته، فالقرية صغيرة، والجميع يعرفون بعضهم، بل يعرفون عن بعضهم أدق تفاصيل الحياة اليومية والشخصية، أيضًا تضبط فاطمة مع غريب في الغيط، ولكي تثبت براءتها وطهارتها تقوم أم جورج زوجة الناظر بالتأكد من عذريتها، وما أن تثبت براءتها بطريقة همجية، حتي تعرف الطريق إلي صابحة قوادة القرية، فهذا الاختبار القاسي الذي اجتازته فاطمة يدفع بها إلي أشياء لم تكن تدركها من قبل، لم تسقط الفتاة أول الأمر، لكن مجتمع القرية "الفضولي" - حتى يثبت براءتها -قتل روح الشرف والكبرياء فيها، وتركها أشلاء. تنطلق الزغاريد في كل مكان، إلا مكان واحد لم تنطلق منه زغرودة واحدة، ذلك هو قلب فاطمة".

    في قصة " بيت من لحم" يأتي سقوط الفتيات الثلاث نتيجة حتمية للظروف الاقتصادية المتردية، حيث تعيش الأسرة المكونة من الأم وثلاث فتيات لا يتمتعن بأي مسحة من الجمال مع زوج الأم الشاب الأعمى " قاريء القرآن"، يقتسمون غرفة واحدة، في البداية تجد الأم حرجًا في ممارسة الجنس مع زوجها، لكن المرأة التي ظلت محرومة من الجنس تمارسه بعد ذلك في وجود الفتيات، مما يؤدي إلي سقوط الفتاة الوسطي أولًا، وتتغافل الأم عما حدث، بل والغريب أنها تناقش الأمر مع نفسها، وتنتهي إلي أنها نسيت بناتها المحرومات! وكيف لها أن تنعم بنعمة الشبع والفتيات لا أمل لهن في الزواج. وتقرر أن تقاسمها الفتيات معاشرة الزوج الكفيف، ويصاب الجميع بالصمت بعد الوقوع في الخطيئة.

 اللافت - فيما أشرنا إليه - أن يوسف إدريس قدم نموذج المرأة الساقطة بشكل مكثف، سواء أكان هذا السقوط نابعًا من إرادتها أم نتيجة الظروف المحيطة بها. وكان للرجل دور كبير في سقوط المرأة، وكان للحرمان الجنسي دور كبير كذلك في سقوطها واستسلامها، صور إدريس سقوط المرأة من خلال سقوط المجتمع ككل، فالمرأة جزء من المجتمع، والمجتمع يعتنق قيمًا فاسدة بالية، تعوق حركة المرأة، وتقدمها، رصد الفنان جزئيات الفقر ومفردات التخلف ليكشف عن المثالب التي يحدثها الفقر في أفراد المجتمع، وخاصة المرأة، عني بتقديم الطبقات الدنيا فكانت نماذجه من خلال هذه الطبقة، سواء كانت في القرية أو المدينة، متعلمة أم جاهلة.