الاثنين 06 مايو 2024 - 06:36 مساءً - القاهرة

     

 

 

               

 

  أحدث الأخبار

 

 

  الأكثر قراءة

 
 
 

ما أسباب تراجع الأغنية

  ازمة صوت

  ازمة كلمة

  ازمة لحن

  غياب دور الدولة في تبني أصوات جادة


نتائج

 

 
 
 

خضراء الله للشاعر محمد عيد إبراهيم


عبد النبي فرج..ريح فبراير
السبت 31 أكتوبر 2020 11:13:28 صباحاً



لا شعر حقيقي دون غموض حقيقي، والغموض الحقيقي نتيجة جماع الموهبة الفطرية والمعرفة الرفيعة، والتي يستطيع الكاتب بها تضفير ونسج جملة شعرية مركبة، تنتج دلالة متعددة تثري الإبداع عموماً والنص الشعري خصوصاً. وقد بدأ الغموض نتيجة مباشرة لتلاقح الثقافات والحضارات حيث تمدد العرب فى العالم مما أدي لصبّ معارف جديدة ولغة جديدة وعادات وقيم مختلفة. وظهر هذا واضحاً لدي أبو تمام.

ومثلما كان الخارج ضرورياً فى عملية التلاقح وتوهج الإبداع فى الشعر العربى قديماً، كان الخارج أيضا عنواناً رئيساً للحداثة الشعرية العربية، فقد أثّرت المدارس التى نشأت بالغرب فى الشعر العربي خاصة الرومانسية التي تأثر بها صلاح عبد الصبور، والسريالية التى تأثر بها جورج حنين ومعظم شعراء مجموعة الفن والحرية، والرمزية التى احتفت بالرمز والأسطورة وظهرت أولاً عند سعيد عقل ثم تبدت عند السياب ونازك الملائكة من ثم في شعر حجازي وأمل، أو من استطاع أن يستلهم كلّ المدارس النقدية الأدبية كما ظهر عند أدونيس، حيث استلهم الحلم والتاريخ والأسطورة واليوميّ الخ.

واحتفى أدونيس خاصة بالغموض وتأثر به الشاعر المصري محمد عفيفي مطر والذي أثر بعد ذلك في شعراء السبعينات تأثيرا قوياً. وينقسم الغموض لدي شعرية السبعينات إلى قسمين: القسم الأول ناتجاً عن تراكم الصور والاستعارات والتوشية والتزيين والزخرفة، فضاع المعنى فى كثير من القصائد وأبهم النص تحت وابل من الرموز المتناقضة التي يستحيل فكّ شفرتها.

ولكى أحدد كلامي فليس كل جيل السبعينات ملغزاً ولا كل إبهام فارغاً، لكن هناك إنتاج كثير جدا بل دواوين كثيرة سقطت فى فخ الغموض، ومنهم الشاعر حلمى سالم فى دهاليزى والصيف ذو الوطء 1990، ورفعت سلام فى إشراقات، وعبد المنعم رمضان فى قصائد ناريمان عدلى رزق الله، وحسن طلب فى آية جيم، وجمال القصاص فى السحابة التى فى المرآة. لكن هذا لا يقلل من تجربة هؤلاء الشعراء أو من تجربة السبعينات عموماً.

والقسم الثاني هو القسم الذي احتفى بالتجريد والأسطورة واليومي والتاريخي والصوفى والولع بالتكثيف والاقتضاب والبعد عن الزخارف، ومنهم أحمد طه، وعبد المقصود عبد الكريم، وأمجد ريان، ومحمد عيد إبراهيم، والأخير موضوع هذا المقال. وقد نتج الغموض لدي هذا الشاعر فى بداية التجربة نتيجة التجريد والاقتضاب والتكثيف الشديد حد البتر، وعدم التجانس فى المقاطع أو الجملة الشعرية.

كما أنه شاعر باطنى يحتفى بالرمز والقناع لذلك زادت حدة الغموض، وهو أيضاً مولع بالنص الصوفى، وما هو معروف عن النص الصوفى من رمزية عالية وتكثيف شديد، لذلك يتقلب الشاعر بين التجلى والخفاء ومقاطع سردية حميمة وشفافة ثم مقطع مقابل ملغز ومبهم تجد صعوبة فى الربط بينها، فهناك عدم تجانس. ويمكن الاستدلال من ديوان "على تراب المحنة" من قصيدة "وحش تهيم" فالمقطع الأول:

(لأن الصباح بلا عددٍ وعضّتنى المصابيح

كان فمى فى التراب على صيد مفردةٍ)

هذا الجزء المعتم واستحالة الاستعارة فعدم التجانس يأتى ما بين "كان فمى فى التراب" و"على صيد مفردة"، ثم هناك الجزء الثانى من القصيدة شديد التكثيف والشفافية والجمال:

(عهدا من العري أحلم، بين الباب والعتبة،

حز رأسي على ملأٍ)

ولتأمل هذه الرقة وهذه القدرة المدهشة على التقشف فى حذف أداة التعريف هنا ليؤكد على عنف الألم وقسوته وقسوة العقاب، ثم ينهى القصيدة ليكشف سمة من سمات الشاعر، وهى العنف والتعبير عن الشبقية المازوخية:

(ضُمّنى

من بهاء العنف بين معبوديك)

إذا الغموض راسخ مع رحلة محمد عيد الشعرية، لكنه كما أشرنا له رغبة فى الكشف ولذلك يعود للتاريخ أو ألف ليلة وليلة، أو الأمثولة، أو اليومي المباشر، فهو يتقلب موجوعاً من التجلى أو الخفاء، يهرب من هذا ليسقط فى هذا، وهي روح الفنان الحقيقية القلقة والمرتابة فى الشعر والحياة وما يملك. يقول:

(اتّعد ابن ملُجم "أنا أقتل عليا"

فخطب قطام، ضرب علىٌّ أباها وقت القيروان:

- تدبّر فالتمس غرته، من حركاتها. جزّئه وتبعّض.

فإن تحصر، شفيت نفسى ونفعك العيش معى.)

 

2

منذ ديوانيه "مخلب فى فراشة" و"الملاك الأحمر"، انتقلت تجربة الشاعر انتقالة فارقة، فقد روّض اللغة العصية، فأصبحت سهلة منقادة وتخلى عن السرد المتقطع الصلب إلى سرد رائق معبر ورائق، لا بتر ولا ترهل، وقد وصل إلى ذروته فى ديوانه الرائع "خضراء الله".

والذات فى "خضراء الله" ذات هرمة، خائفة من الفناء، ولذلك تتشبث بالحياة، وتتوسل بالحكاية والتذكر وتشييد عوالم وشخوص قوية تتفجر بالحياة والقوة. وقد استخدم مفردات دالة معبرة أيما تعبير عن هذا الشوق وهذه الرغبة فى الحياة. وأولى هذه المفردات يأتى من العنوان "خضراء"، وصفة الخضرة مرتبطة بالنبات وسر الحياة وباعث الطاقة، الماء، الذي يحيي الزرع ويجدد فروعه وأغصانه. وأول مرة تبزغ كلمة خضراء متفردة على ما اعتقد كانت فى ديوانه "بكاء بكعب خشن"، وفى قصيدة "نبى أخضر"، حيث يقول:

(أول ما رأيناه امرأة

تغمز لصبى، فراقبناه حتى غوى

واقفا كالنصل عند الظهيرة

جندلته: تري أنى مستطيع لك صبرا

فاختفى منى وبان ممتعضاً)

فالخضرة مرتبطة بالطفولة والصبا والشباب، لذلك لا يخرج على مدار الديوان من هذا الإطار، بمعنى أن الذات تحن إلى مواطن القوة والعنفوان لذلك كان هذا الحنين وهذا التولع بالعودة إلى الماضي الفردوسي، من ثم ننتقل إلى مفردة أخري مولع بها ومعبرة عن حاله، يردد الشاعر مفردة التقشير وقشر الوحل، فحم تقشر عن تماثيل، قشر صبار، وتنويعات تؤدي نفس الغرض، مثل المحو، والبياض، وتمنى مثل قميص يوسف أن يغطي عينيه فيرى اسمه أبيض.

والاسم معادل لحضور الجسد، فلا اسم بلا جسد، واسم جديد يعني جسداً جديداً، والثعابين كلما قد ضاق جلدها أو قدم تقوم بتغيره. والذات عندما يبلى جسدها تريد ان تقشره لتنبت جسداً آخر. ولأنه يعلم الاستحالة فقد كان عليه أن يعيد شبابه وطفولته الضائعة من خلال اللسان. واللِّسَانُ: جسم لحميّ مستطيل متحرك، يكون في الفم، ويصلح للتّذوُّق والبلع، وللنطق وهو هبة ووسيلة.