الثلاثاء 14 مايو 2024 - 09:31 مساءً - القاهرة

     

 

 

               

 

  أحدث الأخبار

 

 

  الأكثر قراءة

 
 
 

ما أسباب تراجع الأغنية

  ازمة صوت

  ازمة كلمة

  ازمة لحن

  غياب دور الدولة في تبني أصوات جادة


نتائج

 

 
 
 

مكوندو... دهشة الكتابة


عبد الحميدشوقى - المغرب
الاثنين 11 مارس 2019 10:11:57 صباحاً



منتصف الثمانينات.. أفق آخر للدهشة.. عالم الواقعية السحرية.. اكتشاف إمكانات مغايرة للمتخيل خارج التقليد الأوربي والمشرقي التاريخي..

لكم أحب رواية " مائة عام من العزلة ".. سفر مذهل..

ظهيرة فائظة. أنسحب من قيلولة العائلة الثقيلة، وألعق ملوحة العرق. دائما أجدني هناك. لا مغتربا ولا منفيا. أجدني في كامل وقاحتي الهندية اللاتينية. أدخل مكوندو في عصر مصفر عاصف الريح والغبار. أفرك عيني جيدا. الكاريبي على مسافة ألق مني. في البيوت الصامتة ذات الأعمدة الخشبية، حيث يربط القرويون خيولهم، أراه هناك تحت شجرة ضخمة، يتبول وكأنه يأذن للموت أن يسرق يديه اللتين أشعلتا اثنين وثلاثين حربا أهلية على طول الساحل الكولومبي. العقيد بوينديا الذي شاخت الثورة تحت جفنيه حين وضع بينه وبين العالم مسافة ثلاثة أمتار. أدخل البار الصغير متأبطا " مائة عام من العزلة ". أجد ماركيز غارقا في بكائه الإنساني. كان قد أخبر مرسيدس أنه قتل العقيد بوينديا قبيل الفجر. طلبت منه أن يصحبني في جولة لاكتشاف المكان ورائحة الحكايات الأمومية. كانت مكوندو تخرج من عزلتها التي دامت مائة عام، حين دخلها ملكيادس  سيد الغجر في عصر ذلك اليوم، حين كان فصيل الإعدام  يستعد لإطلاق رصاصه حمل الغجر معهم آخر مخترعات علماء ممفيس خارج منطقة ريوهاتشا كلها . لم يعترض الكاتب الكبير الذي كان يشرب التيكيلا ليكون أكثر مجدا وهو يستعد لكتابة وصية موته لمومساته الجميلات. رأيت اللذة تشع في عينيه. قادني إلى جده الأكبر الذي رجع غاضبا من أحد صراعات الديكة، ووقف شاحذا فحولته لينتزع حزام العفة عن زوجته التي كانت تخاف تحقق النبوءة بميلاد الطفل المسخ. مر زمان موغل في فتوته، وصرخ أوريليانو الصغير في وجه البقر الذي كان يقف أمام سكنه حين حاصر المطر مكوندو لشهور طويلة: ابتعد أيها البقر.. الحياة قصيرة. كان في حضن عشيقته الراقصة يحتسي ما تبقى من كحول. لكنه أصر أن يفي بوعده بألا يموت خارج عطر زوجته. وظل ملكيادس يسجل القدر في مخطوطه الغامض الذي كتبه بلغة الغجر القدامى، وآخر السلالة اللعينة لم يكن يعلم أنه ينام مع ابنة أخته ويرتكب المحرمة التي نبه إليها الغجري الصامت. حين نجح أوريليانو الأخير في حل شفرة ملكيادس، كان القدر ينزل من غيومه، وكان النمل يتجمع إيذانا بالنهاية المحتومة.

تكاد الرواية تسقط من يدي، وأنا أستأذن الكاتب الكبير ألا أغلق باب أحلامي حتى أعيد بعث الحياة في مفاصل القيلولة الصيفية الطويلة. يولد الطفل المسخ بذيل خنزير، كما أنذرت نبوءات الغجر بذلك، وعصف الخراب بمكوندو، ولم يتبق بين شفتي سوى عبق الحياة التي تتبرج داخل مخيلتي. أجد عرقي أكثر انسيابا وأكثر ألفة. وحين تصحو أمي من قيلولتها أخفي عنها مخطوط ملكيادس الغامض. ما زال في الطريق شهوة أخرى للسفر.