الاثنين 29 أبريل 2024 - 05:20 صباحاً - القاهرة

     

 

 

               

 

  أحدث الأخبار

 

 

  الأكثر قراءة

 
 
 

ما أسباب تراجع الأغنية

  ازمة صوت

  ازمة كلمة

  ازمة لحن

  غياب دور الدولة في تبني أصوات جادة


نتائج

 

 
 
 

من نظرة عين


محمد صالح البحر
الأحد 17 مارس 2019 06:26:08 صباحاً



 

أمنية المبدع الخالدة

 

ليس من السهل أن تكون كاتبا، خصوصا في المجتمعات الفقيرة التي لا تؤمن بالمعرفة والإبداع كطريق للتقدم من جهة، ومن جهة أخرى لا تُدر الكتابة فيها كمهنة الدخل الذي يؤهل للكاتب أن يعيش حياته بشكل كريم، دون الحاجة إلى عمل آخر يفي باحتياجاته واحتياجات أسرته، ويوفر لهم الأمن في الحاضر والمستقبل، فالمجتمعات الفقيرة تحتاج إلى القوة البدنية التي تساعد الإنسان لأن يشقى في الحياة، بحثا عن العمل الذي  يوفر له قوت يومه، كما تحتاج في ذات الوقت إلى قدر مماثل من "البجاحة" التي تساعد قدرته على الشقاء كي تبقى وتُثمر نتائجها، فالتجربة أكدتْ لإنسان المجتمعات الفقيرة أن القدرة على الشقاء وحدها قد توفر له الطعام، لكنها لن توفر له أبدا أن يجلس هو وأسرته في هدوء كي يسدوا فم بطونهم الممزقة من الجوع بهذا الشقاء، فالمجتمعات الفقيرة لا توفر الأمن لا أيضا، ليظل إنسانها مؤمنا طوال الوقت، أنه يعيش في غابة ممتلئة بالصراع من أجل الحياة، وأن البقاء فيها للأقوى فقط، حتى لو كان بقاء مؤقتا ومرهونا بظهور من هو أكثر منه قوة وبجاحة في ساحة القتال، التي لا تدع مجالا للتفكير إلا في كيفية البقاء حيا، بينما تغض النظر تماما عن أسلوب هذه الحياة، أو كيف يجب عليه أن يعيشها بقدر مناسب من الإنسانية، يُمكنه من التأمل والإبداع مثل إنسان المجتمعات الغنية والمتقدمة، الذي أمِنَ تقريبا لكل شيء في حياته المادية، وراح يُطلق العنان لعقله وخياله كي يُحلقا من فضاء الكون من حوله.

   لكن على الرغم من كل هذا الشقاء اللاهث، الذي يحيط بإنسان المجتمعات الفقيرة، إلا أن غواية العقل والتخيل لم تكف يوما عن أن تُصيبه في مقتل، ليس فقط لأنه يرى في ظل العولمة التي صار كل شيء فيها مكشوفا تماما، أنه لا يقل في شيء عن إنسان المجتمعات الغنية لو أُتيحت له الظروف المناسبة للخلق، ولكن أيضا ـ والأهم الذي يغفل الجميع عنه ـ أن هذا الشقاء نفسه معجون بكافة أشكال الدراما، التي هي أساس الإبداع، وبذرة التفكير العقلي، وشعلة الوعي الأولى التي تكفي لإضاءة بداية أول الطريق، لذلك لم يكن من الغريب ـ عكس ما توقع الجميع وعمل من أجله ـ أن تمتلئ المجتمعات الفقيرة بهذا الكم الهائل من المبدعين، بأكثر مما تمتلئ به المجتمعات الغية، على الأقل من حيث العدد الكمي، رغم علمهم اليقيني أن جهدهم الإبداعي هذا لن يكفي يوما ما لإشباع ولو القدر اليسير من احتياجاتهم الحياتية، بل على العكس تماما يأخذ منها دائما، يأخذ من قوت يومه، ومن صحته البدنية، وقد يقلل من فُرصه في الحياة ونصيبه منها، لكننا من هنا أيضا نستطيع أن نلمس حدود وأبعاد ذلك الجهد المضنى الذي يبذله المبدع في المجتمعات الفقيرة، فقط من أجل أن يوجد، من أجل يبقى حيا في الغابة التي لا تتوانى عن نهشه كل لحظة للقضاء على وجوده الهش، حيث لا أحد يراه أو يؤمن به.

   في هذه الطريق الوعرة يتحول كثير من المبدعين الفقراء الواعدين إلى قتلة، أو انتهازيين ووصوليين وماسحي أحذية، أو سارقين لأحلام وأفكار ومجهود زملائهم الآخرين، حتى أن إبداعهم ذاته ـ الذي شكَّل غايتهم الأولى للسعي في الطريق ـيسقط منهم في زحام الغابة، وتحت سطوة وشراسة الاقتتال فيها، لكن الذين يُكملون الطريق حتى أنفاسهم الأخيرة، أو الذين يحالفهم الوقت للوصول إلى خط النهاية وأقدامهم تسير على الأرض، ورؤوسهم تحلق في السماء، تظل أمنيتهم الوحيدة، الخالدة، أن يراهم بعض الناس من حولهم، وأن يشيروا إلى آثار أقدامهم على الطريق، كدليل دامغ على أنهم قد تحدوا كل الأشياءليمروا من هنا.