الاثنين 29 أبريل 2024 - 05:09 صباحاً - القاهرة

     

 

 

               

 

  أحدث الأخبار

 

 

  الأكثر قراءة

 
 
 

ما أسباب تراجع الأغنية

  ازمة صوت

  ازمة كلمة

  ازمة لحن

  غياب دور الدولة في تبني أصوات جادة


نتائج

 

 
 
 

عيون مينرفا


عبد الحميدشوقى - المغرب
الخميس 21 مارس 2019 07:22:53 مساءً



في حداثة الصورة الشعرية   

 

إن ما يحكم حدوسي هنا هو موقعي الداخلي باعتباري منتجا للقول الجمالي، بكل ما يدل عليه ذلك من تحويل التجربة الشعرية الذاتية إلى مجال للتفكير والمساءلة. وتكبر الصعوبة عندما نعرف أن الذات هنا مشرعة للقول الشعري ومشرَّع لها في نفس الآن على حد تعبير كانط. فبعد تجربة طويلة من التراكم الإبداعي، ومن التمرس بالأعماق، تعود نفس الذات الشاعرة لكي تتباعد عن نفسها، وتغير مادتها الأولى من مادة حية وجدانية، إلى جهاز مفاهيمي صوري يمتح من التفكير والسؤال.

 إن منطلقي هنا يتعلق بالبحث في ما يؤسس الشعرية من وجهة نظر فاعل منخرط في العملية الإبداعية.

 لكن القول الشعري الذي أعنيه هنا هو ما يمكن أن ندعي تسميته بالقول الشعري الحداثي.   يترتب على ذلك تحول حاسم في فهم دلالة الصورة الشعرية. فالحداثة لا تفهم إلا على ضوء مقابلها الآخر وهو التقليدانية الشعرية. هذا التقابل يضعنا مباشرة أمام بنيتين شعريتين متباينتين. ولذلك لا يمكن أن نبحث في مقومات الصورة الشعرية الحداثية عبر وسائل الشعرية القديمة.

يصدر الشاعر الحداثي اليوم عن آلية فكرية ورؤية وجودية وذائقة جمالية مختلفة تماما عن التقليد الموروث. وهذا ما عكسه في تاريخ الفن الغربي الانتقال من البلاغة إلى الإستطيقا؛ من القواعد المنطقية الصورية التي يجب أن يخضع لها الأثر الأدبي، إلى الحياة الداخلية للذات المبدعة التي تعيد صياغة العالم عبر مجدها الخاص واستقلالية رؤيتها للأشياء. لم يعد الشاعر الحداثي معنيا اليوم بالمحسنات البلاغية القديمة. فإذا كانت اللغة هي مادة الشاعر التقليدي، فإن الحياة هي مادة الشاعر اليوم. كيف يجتهد الشاعر في إطار "الأمس الأزلي"، دون الخروج عن مظلته؟ ذلك هو ما يؤسس رؤية الشعرية القديمة. لكن كيف يمكن تمزيق المظلة ككل لرؤية الامتداد اللانهائي؟ ذلك ما يؤسس الحداثة الشعرية. يقضي الشاعر القديم عمره وهو يطور أدواته من أجل أن ترقى إلى مستوى ما كتبه الأوائل، ويعيش الشاعر الحداثي تجربة التمرد على الأب، وإيجاد موطئ قدم في حقل الصراع الشعري، لا يملك حيالها أي يقين يمنحه الطمأنينة بأنه ينتمي إلى مملكة الشعر. لا يعترف الحداثي بسلطة النموذج الشعري ولا بوجود طبقات تراتبية عليه أن يشتغل في إطارها، والحداثة التي دشنها السياب وأصدقاؤه ابتدأت في اللحظة التي استقل فيها الشعر عن النموذج، وتم فيها النظر  إلى الأثر الشعري باعتباره موجودا في ذاته بمبرر واحد هو "الجمال".   

 يقوم العمل الإبداعي في عمومه على ما يمكن تسميته بـ" التمثيل"، حيث يتجلى الوجود     كـ " آخر" غائب يتم استحضاره عن طريق التخيل أو الفكر. هذه هي الوظيفة الأساسية للعقل في تعامله مع الطبيعة. غير أن ما يميز الشعر عن العقل، هو أن العقل يكون مقيدا بمجموعة من القواعد والمحددات المنطقية التي تفرضها طبيعة عمله كمنظم للمادة الحسية. ولذلك يقول هيجل "الشعر هو الفن المطلق للعقل، الذي أصبح حرا في طبيعته." فإذا كان العقل لا يتحقق إلا في المادة الحسية الخارجية، فإنه في الشعر "يتغرب بشكل تام في المكان الباطني، والزمان الباطني للأفكار والمشاع". يشبه الشاعر " صانعَ أوهام " illusionniste، نعرف أنه يمكر بنا، وأنه يشتغل على عناصر مادية ومرئية : ساعة، أوراق ، مناديل، لكن عنصر الإبداع المثير للدهشة يكمن فيما لا نراه، وهو ألعاب الخفة التي يقوم بها وسرعة الحركة التي ينجزها بحيث تبدو الأشياء أمامنا مفارِقة وغير معقولة ، لأنها تقوم على علاقات غير مبررة ، كأن تخرج أرانب من قبعة، وأن ينتشل الساحر ساعتك من جواربك. وعندما نتأمل ما يقوم به " صانع الأوهام"، ألا نستنتج أنه يضعنا أمام حقيقتنا العارية، وهي الاستخفاف بوثوقيتنا العقلية العمياء؟ وكم يدهشنا جاك بريفير وهو يتحدث عن الحرب:

قفوا أيها الموتى،

اذهبوا سريعا إلى الحمام

 نريد جثثا نظيفة ..!      

  لنقل إن القصيدة لا تتحقق من دون قدرة الشاعر على جعلنا نرى ونحس ونشم ونسمع ونسافر ونتساءل . لكن ما الذي يحقق هذه القدرة الشعرية ؟ إنه ما نسميه "الصورة الشعرية". يمكن تعريف الصورة الشعرية بأنها الأثر الذي تحدثه لغة الشاعر عندما تتجاوز مجرد الكلمات العامة المشتركة التي تشكل وسيلة التواصل بين الأفراد، إلى مستوى التوغل في الأعماق ونقل ما يجري من حياة في العالم الداخلي للذات. فالصورة الشعرية هي فضاء التلاقي بين الذات المبدعة والمتلقي. ولذلك تتأسس الصورة على مكون أساسي، دون أن يكون كافيا، وهو المكون الذهني، ويتعلق بتقاليد العمل الشعري، بما فيها عقل الشاعر وثقافته، أي "الممكن المعرفي" للشاعر. هذا المجال يعفينا من النظر إلى الشعر كمجرد انفلات شعوري وحدس "شيطاني" يجعل الذات الشاعرة في حل من كل تكوين معرفي. إن الشاعر هو أولا وقبل كل شيء من ينتمي إلى تاريخ الشعر المحلي والكوني، وهو من يفتح حوارا مستمرا مع الموروث الشعري الذي يتموضع ضمنه. مثلما أن الموسيقي هو من ينتمي إلى التقاليد الموسيقية التي تمتد من موزار إلى بتهوفن إلى شوبان. يقول أدونيس مثلا:

مسافر.

تركت وجهي على زجاج قنديلي.

خريطتي أرض بلا خالق

والرفض إنجيلي.

 نحن أمام صورة شعرية تختصر قدر الشاعر المرتبط بالسفر من أجل البحث عن الحقيقة التي اختصرها في رفض السلطة اللاهوتية. لكن هذه الصورة تتأسس على مجال ذهني يحيلنا على الفلسفة اليونانية، وعلى ديوجين اللائرسي وهو يحمل قنديله ويبحث عن الحقيقة.

كما يقول محمود درويش :

لا طروادة بيتي

و لا مسادة صوتي..

 

تقوم هذه الصورة كذلك على مجال ذهني يربط الشاعر، الذي يصر على حق الأهل في الأرض التي لم يعرفوا غيرها ، بمجال الحرب الطروادية ، وبمجال التاريخ العبري الذي يتحدث عن مذبحة " ماسادا ".

     وللحديث بقية.