الاثنين 29 أبريل 2024 - 08:40 صباحاً - القاهرة

     

 

 

               

 

  أحدث الأخبار

 

 

  الأكثر قراءة

 
 
 

ما أسباب تراجع الأغنية

  ازمة صوت

  ازمة كلمة

  ازمة لحن

  غياب دور الدولة في تبني أصوات جادة


نتائج

 

 
 
 

أيقونة الشعر


إيهاب خليفة
السبت 23 مارس 2019 09:55:27 مساءً



ليست الموسيقى  مرتبطة بإشكالية الدال والمدلول، بل هي لغة الجنس البشري كله، لغة مجردة عبر حاسة السمع تترجم إلى عواطف لا محدودة، و من هنا فديوان " موسيقى الأظافر الطويلة"

للشاعر عيد عبد الحليم " الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب 2013م، يعدنا بتلقي حالات وجدانية متباينة تخص الإنسان بصفة عامة دون أي محددات من جنس أو عرق أو لون أو حتى لغة، هاجس الديوان إذن هاجس إنساني هكذا تشي المفردة الأولى في عنوان الديوان أما الأظافر فهي وسيلة بدائية للدفاع عن الذات بدءا من الطفولة، وهي رمز دال على المقاومة في أبسط صورها،المقاومة من أجل الحرية و البقاء، وقد عزز الشاعر هذا التوجه بالنعت " الطويلة" ليؤكد مسعى هذه الذات للمقاومة اعتمادا على وعيها باحتمالية تخلي الجموع عنها و بقائها منفردة تواجه قدرا ما أو استبدادا ما، لذا ففي الديوان ستظل المقاومة لا عبر الأظافر كشيء مادي أو كسلاح بدائي قد يزدريه الكثيرون، ولكن عبر نصوص تشبه الموسيقى لا من حيث الإيقاع ولكن من حيث توجهها إلى جوهر الإنسان أينما وجد؟

 

تتكون التجربة في ديوان " موسيقى الأظافر الطويلة "من أربعة كتب داخلية تعنون، هكذا:
1- كتاب"عشب بري" ويتكون من ست قصائد.

2- كتاب "ضلوع خاسرة" ويتكون من خمس قصائد وهامشين مستقلين كأنهما قصيدتان

3- كتاب "صباح الخير أيها الحب" ويتكون من سبع قصائد.

4- كتاب "أغاني الطابق السابع" ويتكون من خمس عشرة قصيدة.

 

 

وينبغي أن أشير إلى أن قراءتي تشتمل فقط على رصد بعض ملامح الكتب الثلاث الأولى-  إذن أن التجربة تتسع لأكثر من قراءة- ، أيضا من الضروري أن أؤكد أن كل كتاب يتموضع حول فكرة محددة، كالتمرد بشكل عام  أو الثورة على السلطة الغاشمة لكن يظل الموضوع ممتدا في ثنايا الكتب الأخرى، أي أن أطروحة كل كتاب لا تنتهي بنهايته، بل تتنامى في سياقات الكتب الأخرى التي تتضافر معها.

 

-1- ملمح التمرد ضد أي سلطة:

 

في كتاب "عشب بري "   وهو كتاب التمرد ضد السلطة أيا ما كانت ، يرمز الشاعر لكل سلطة بالبستاني العجوز الذي يعنى بتنسيق الحديقة، وفي الحقيقة هذا البستاني العجوز يشذب ما يخالف النمط، وما يكسر الاعتياد بشكل فوضوي من وجهة نظره، فهو يمارس سلطته المطلقة على الحديقة باعتبارها فريسة، هو لا يشذب بل يعطل إرادة الكل لصالحه لولا أنه يؤتى من مكمنه أحيانا بالنسيان؛ فيترك دونما قصد العشب البري الذي رغم رطوبته واخضراره وضعف احتماله يمثل أملا، يقول الشاعر عيد عبد الحليم في نص طمأنينة ص 11:

 

الدفء أمر نسبي/ في تلك المدينة /يتساوى أن تنام على صخرة/ أو أن تضع رأسك على عشب بري/ أخطأته يد البستاني العجوز.

 

 

 تتنامي فكرة العشب البري  عند الشاعر؛ ليضحى شخوصا منذورين للموت داخلين رغما عنهم في صراع شرس مع  من يرمز لهم  بالصعاليك وهم التطور الطَّبَعِيِّ للبستاني في صورة أكثر جلاء، فالعشب يصير الذات الشاعرة التي تبوح بما يخالف سياسة القطيع، والبستاني يضحي صعلوكا شرسا نهما للسلطة والخراب، وتجدر بنا الإشارة هنا إلى أن الشاعر لا يرمز للصعاليك ترميزا إيجابيا بمعنى أنه لا يذكرهم كرمز للخروج عن سلطة القبيلة بل كرمز يتسلط على القبيلة إذ يقدمون العواء و يصادرون الكلمة، العواء الذي لا يفهم سوى لأفراد قطيع الذئاب فقط،  لذا تنبئنا قصيدة " عواء الذئب" بالمصير المحتوم الذي يتوقع للذات الشاعرة، يقول الشاعر عيد عبد الحليم في عواء الذئب:

ص15:

-1-

صدقيني / أنا موجوع مثلك – تماما-/ فهذا الطريق لن نمشي فيه مرتين/ وتلك الزهرة/ التي تملسين عليها/ كجناح طائر

لن تبقى – كثيرا- في يديك/ فهم قادمون- بشراسة الصعاليك-/ لمحو ما كتبناه في أول الخريطة/ احضنيني – بقوة-

قبل أن تسكن روحي/ في كلمة على جدارة/ بينما وحدك في البعيد/ تبحثين عن الرائحة.

-2-

لماذا تخافين من عواء الذئب؟/ رغم أنك عشت عمرك كله/ تهيئين روحي/ لصعود السلالم العالية/ رغم علمك التام

بأن جثتي معلقة في الممر

 

تجدر الإشارة هنا إلى أن الشاعر في كتاب العشب البري عرض الشاعر ثنائية البستاني والعشب،يعرض الشاعر ثنائية المدينة كيوتوبيا والمدينة كمنظومة للقهر ولا يستخدم ثنائية القرية والمدينة المعتادة يتبدى ذلك في إعلانه حبه للإسكندرية في مقابل كراهيته لمدينة أخرى لم يذكرها صراحة، لعلها القاهرة؛ فالأولى لديه وهي الإسكندرية مخلصة للمنسيين، مغلفة بالحب الأسطوري، خرجت عن كونها مدينة لتكون مدنا أسطورية في وعي محبيها، يقول الشاعر عيد عبد الحليم :

 

لماذا أحب الإسكندرية؟ ص25/ هل لرسائل البحر كل شتاء/ إلى صبي هجر القرى/ لترتاح أحزانه/ فوق صخرة على الشاطئ أم لعشقي لمشية بنت سمراء/ على الكورنيش/ في الظهيرة القائظة / أم لشوارعها التي تحمل رائحة المنسيين

 

في حين أن الشاعر يبغض مدينة أخرى يتساوى فيها العشب والحجر، وتاريخها يمسي حجرا جاثما فوق صدور الناس، يقول في "طمأنينة" ص11:

 

الدفء أمر نسبي /في تلك المدينة/ يتساوى أن تنام على صخرة/ أو أن تضع رأسك على عشب بري/ أخطأته يد البستاني العجوز.

وص13 الحياة حجر/ الموت أيضا حجر /والتاريخ مكتوب على حجر.

 

وهو يكره المدينة لأنها شديدة القيظ تحرمه من ممارسة طقوسه كالكتابة والحنين و ملاعبة قطته التي تؤنس وحدته بسعادة، فالمدينة في تجهمها وعبوسها تقصي الشاعر عن التآلف مع عالمه الخاص، ويشير تجهم المدينة هذا إلى تجهم كل شيء في وجه الشاعر المفتون بمدينة أخرى التشبع بالحرية أساسها، يقول في قصيدة الصيف جاء مبكرا ص 21:

 

 

الصف جاء مبكرا/ هذا العام/ دون أن أستفيد من الشتاء/ في كتابة الأشعار/ أو مراودة الحنين/ عن علاقة غائبة.
جاء الصيف قبل أن أجذب السعادة إلى بيتي/أو أملس على القطة/ التي تنام تحت سريري/ جاء الصيف / بلا هوادة أو ذكرى

فماذا أفعل إذن/ وضلوعي تهوي الفصول الأخرى؟

 

ويتبدى ملمح التمرد جليا في قصيدة عنوانها " هكذا أطوح حذائي في الهواء" لنجد ذاتا شاعرة لا تنكر أخطاءها بل هي فرحة بها أو بقدرتها على اقترافها، وهي تصرح بأخطائهامثلا ترسم مدنا جديدة على الحوائط، تعشق  و تضرم النار في عشقها ولا تأبه، بل تصنع لنفسها سماوات خاصة حتى لو كانت ناقصة، ولنا ان نتساءل ما الجريمة في رسم مدن على الحوائط ؟ أو في خوض تجارب عشق لا تنتهي،ما الجريمة؟ الإجابة الجريمة هي ما قلته عن العشب وهو أن الشاعر صار  يبوح بما يخالف سياسة القطيع. يقول الشاعر في القصيدة ص 31:

فرح بأخطائي الصغيرة/ وبمدني التي أرسهما/ على كل حائط/ وبفتياتي اللاتي أعشقهن- في الصبح—وأنساهن في المساء/ وأنساهن في المساء/ وأشرب في حضورهن/ نخب السعادة / ولا أحترف اللوعة.......

 

يتنامى حس التمرد هذا لنصل إلى أحداث ثورة 25 يناير كجزء أصيل في تجربة هذا الديوان، وهي تقع ورقيا في  الكتاب الثالث المعنون صباح الخير أيها الحب، لكنها حقيقة تتبع كتاب العشب البري وتعتبر امتدادا له حيث فيها تستعيد المدينة الغارقة في عبسوها أقنعهتا لتبدى وجهها الناصع المضيء، يقول الشاعر ص 65:

25 يناير 2011

في صباح ممطر كهذا/ تبدو المدينة / كطفلة / ألقت بكل الأقنعة/ في الشوارع الجانبية

لتقف مع منشدي الحرية/ تحت الشمس تماما/ الشمس التي غيرت طقوسها/ لتسطع في يناير

يا يناير الطيب/ لا تتكرني إذن/ لقسوة الشهور الأخى/ ولظل الأشجار/ التي تترامي في الصيف.

 

-2- ملمح الانكسارات وهو محور الكتاب الثاني" ضلوع خاسرة "التي تدخل الذات هنا في حالة من الخواء والجحيم، انكسارات تتبدى لتورطها في الهم العام ورغبتها في جعل الحب قيمة مقدسة لا تدنس بعادات أو تقاليد، فلا يجب كما يزعم الشاعر أن نحجب الحلم و الحب والثورة، لأن الشاعر هو لسان الموجودات جميعا كما يتبدى في الديوان فهو المنوط به إبلاغ السلطة نيابة عن الكائنات بهذه الأحلام و بتلك المشاعرالعاشقة و هو المنوط به أيضا أن يكون لسان الثورة، والشاعر يعلم يقينا أن حلمه بالبوح هذا حلم مصيري له ، و هو جريمة غير مبررة من وجهة نظر أخرى، لذا نجده يقول : فرح بأخطائي/ وبمدني التي أرسهما على كل حائط.. ومن أجل تحقيق أحلام غيره يقول ص 35:

لو أنني ساعي بريد / لوزعت كل الرسائل على الأحبة؛/ولاخترت طريقا واحدا تمشي فيه دراجتي / هو المؤدي إلى بيت امرأة تسكن القلب...

 

في هذا النص يظهر الشاعر عدوا جديدا ( غير الصعاليك- غير البستاني) للحب ويسميهم البرابرة الذي ينتهكون قيمة الحرية ويدسون أنوفهم في شئون غيرهم، الذين يريدون احتكار شجرة التوت كرمز أسطوري الدلالة ، الشجرة التي بها يواري الناس سوآتهم، فمن هؤلاء الذين يمنعوننا أن نستر أخطاءنا؟!ويسعون إلى افتضاحنا بشكل مستمر ، يقول الشاعر عيد عبد الحليم:

 

لو أنني ساعي بريد/ لكتبت فوق كل جدار:"الحب شجرة توت ؛فلا تتركوا أوراقها للبرابرة/ حتى لا تخرجوا في الصباح القادم إلى المدينة وأنتم عرايا.

 

وفي ضلوع خاسرة تأتي اعترافات الشاعر فاضحة لكل كذب أو ادعاء،معلنا أن الشعراء خارج مشهد الفعل حاليا وليس بإمكانهم فعل شيء أي شيء لقد صاروا محاربين قدامي، يقول :" الشعراء خسروا الحرب قبل أن يدخلوها" بل يتناص مع الموروث الديني معتبرا أهوال الواقع كأهوال القيامة، ومبينا مصيره ومصيرنا الصعب، فنحن دائما بين بين لا أدركنا الجنة ولا انحدرنا في الجحيم، يقول ص 38:

فلم نرث جنة/ ولا طريقا يفضي إلى الجحيم/ دائما نحن منذورون / للوقوف على  الأعراف

دون أن ندري/ لا نملك إلا صرخة / نتركها في أرحام نسائنا/ ولا نمل من تكرار أناشيدها

في الليل الذي يؤاخينا كظل.

 

3-  الملمح الثالث: الشغف بالتذكر  ورصد مسيرة آلام الذات الأبدية: في  كتاب الحب أو كما عنونه الشاعر عيد عبد الحليم " صباح الخير أيها الحب" سيرة تفصيلية للشاعر و علاقاته كعاشق قديم ، ليس بهذا الشكل المباشر يغمس الشاعر عيد عبد الحليم نصوصه في أرض المحبة الضاربة بجذورها إلى أعمق نقاط الحنين، بل يقيم علاقة مع محبوبة سرية يفصلها بحرٌ عاتٍ عن المحب، و الرسائل عالقة في التيه ولا تصل، هنا في كتاب الحب نجد شغفا بالتذكر  ورصد مسيرة آلام الذات الأبدية، الذات المنفية فوق يابستها لأنها تتوق إلى الخلاص، لذا ليس من المستغرب أن نجد الشاعر يلوح بأيقونة ثورة يناير عبر كتاب الحب هذا، إن محبوبته – على أرجح الاحتمالات- لم تكن امرأة تشتهيها الحواس، بل أمنية شعب يحيا مستلب الأحلام، يحيا على هامش الوجود، في كتاب " " صباح الخير أيها الحب" نجد عدة نصوص مركزية، أهمها نص يناير ، ونص الديكتاتور وهما  وجها عملة واحدة، يقول الشاعر في نص ينايرص59:

 

( في يناير من كل عام / أفتح نافذتي للبحر/ كي أستقبل الرائحة / جسدي عار- تماما- فمعطفي أهديته لامرأة عابرة/ وليس فيغرفتي / سوى بعض أقلام الرصاص/ وعدد لا بأس به من الأوراق الفارغة/ التي تستحثني – دائما- أن أكتب عن بنت / هجرت خريطتي/ لتحرس- ليلا-  الأعشاب السامة في الذاكرة...)

 

تختزن قصيدة " يناير " للشاعر عيد عبدالحليم سيرة ذاتية مغموسة في الآلام، يسترجعها الشاعر لتكون سيرة جيل بكامله فقد يقينه بتحقق السعادة، وهو يستشرف الموت كخلاص أكثر مما يأمل في تغيير ما، فقد عاش جده في عصر الإقطاع ولم يشهد الثورة التي أنهت عهد الملكية، وجده مثله عاش حبا مأساويا، كما أن أباه غادر العالم مبكرا تاركا له يتما هائلا، إن عيد عبد الحليم هنا في تلمسه للجذور القصية، يكتشف أن عائلته كلها منذورة للأسى والوحشة والاغتراب، يقول الشاعرص61:

 

( في يناير فقط/ أصير رومانسيا/ فأحن إلى جدي/ الذي مات دون أن أراه/ وأتمنى أن أملس على جثته

بشرط أن تشاركني اللحظة المرأة التي أحبها/ وماتت وحيدة في حقل (الباشا)/ جدي الذي أتقن تربية الماعز الجبلي/ ومات دون الأربعين/ وأورث أبي الموت المبكر- أيضا-/ هل أموت أنا في يناير / دون سن الأربعين؟! )

 

وعبر هذا الأنين تأتي قصيدة الديكتاتور مهمة في سياق الديوان حيث يتقمص الشاعر تلك الذات المتسلطة التي وهبته الخراب و سلبته مشيئة الاختيار، نجد الشاعر هنا يتوحد بهذه الذات، ويتحدث نيابة عنها، مظهرا ما تبطنه من سوداوية و ما تتوف إلى من دموية، يقول الشاعرص 76:

 

...

الطير لا يحلق في سماواتي القريبة

إن كان ثمة سماء أصلا

أجيد تربية الخراف

التي تتقن فن الانسياق في القطيع

 

وأتوجس خيفة من كل طفل يخط الأبجدية

أنا حارس الماضي

السائر على خطي الأسلاف

 

الدم شريعتي

والخراب يقيني.

 

هذه القراءة هي محاولة لملامسة أجواء ديوان شعري قد يبدو كبحر ساكن هادئ من بعيد لكن ما إن تقلب أوراقه حتى تجد نفسك محاصرا بدوامات لا نهائية من الحلم والألم، ديوان يقودنا بهدوء باتجاه ممالك الشعر المجهولة.