الاثنين 29 أبريل 2024 - 04:06 صباحاً - القاهرة

     

 

 

               

 

  أحدث الأخبار

 

 

  الأكثر قراءة

 
 
 

ما أسباب تراجع الأغنية

  ازمة صوت

  ازمة كلمة

  ازمة لحن

  غياب دور الدولة في تبني أصوات جادة


نتائج

 

 
 
 

من نظرة عين


محمد صالح البحر
الاثنين 25 مارس 2019 02:32:41 صباحاً



سيد الكائنات

 

   لم تعد الطفولة ـ بالنسبة لي ـ عينا تنظر إلى ماض جميل، أُحب تذكره في لحظات الصفاء والخلوة، بل عينا سحرية تطل على غور سحيق بداخلي، كلما انتبهت إلى ذاتي في لحظة معينة، وسألتها: لماذا أنتِ على هذه الحال دون غيرها؟!

   هكذا أتمكن من تفسير نفسي في كل حالاتها تقريبا، الفرح والحزن والحب والوحدة والكتابة ومحبة الجمال، وبمرور الوقت لم يعد الأمر يحتاج إلى شيء أكثر من نظرة بسيطة وصغيرة ومتأملة، ربما تأتي بممارسة كثير من الضغط على ذاكرة مثقلة وممتدة الآن في الزمن، لكن الرغبة المتقدة في معرفة الذات، ومعرفة الطريق إلى التحايل على النفس الملولة، يجعلها تأتي، لأراني هكذا منذ كنت صغيرا، لم يتغير شيء تقريبا، سوى المزيد من الوعي الذي يقدر على إضاءة اللحظة، وكشف أغوارها المتوارية، بعيدا عن براءة الطفولة، ولهوها الإلهي المتعمد بغية التكوين ونمو البذرة، هكذا علمتني تجربة ممارسة الحياة أننا لا نتغير عندما نكبر، بل نظل على ذات تكويننا الأول، وبذرتنا الأولى، تتغير ملامحنا الخارجية، تنمو أجسادنا وعضلاتنا، تتغير ظروفنا وأماكننا، يهرسنا الوقت بعوالمه البيولوجية والطبيعية، لكن الكائن الذي تشكل بدواخلنا، من التكوين الأول والبذرة الأولى، يظل على حاله تماما، مشكلا لطبيعتنا وسلوكنا ومبادئنا وسياقنا في الحياة، وأن كل ما يُحدثه مرور الوقت أنه يضع في يد ذلك الكائن مصباحا ليكشف له الأشياء، ويصنع لنا عينا سحرية تعرف طريقها إليه كلما رغبنا في التعرف على أنفسنا.

  في سبتمبر عام 1996 داهم مدينة قنا سيل مدمر، أتى من قمم جبال البحر الأحمر مثل وحش كاسر ومترقب، ليأتي على نصف أحياء المدينة الكائنة على بُعد خطوات قليلة من أرجل الجبال شرق النيل، وكانت قريتي "المَعَنَّي" في ذلك الوقت بكرا ساذجة، تقف تحت أقدام الجبال العالية بمثالية مفرطة، وهي تظن أنها تستمد منها أصلا قد يُغنيها عن افتقاد الامتداد في الزمن، أو يملأ كفيها الخاويتين بفخر يشبه إلى حد كبير فخر البلاد المجاورة بتاريخها الطويل، فلما تثاءبت قمم الجبال، في غفلة أو عن عمد، كانت "المعنَّي" في فوهة التجربة، وصارت الخاسر الأكبر في مواجهة سيل لم نشهد له مثيلا حتى الآن، هكذا كُتب على بيتنا الطيني القديم أن ينهار، وأن تنهار أسفل منه مكتبتي التي ظللتُ أرعي تكوينها لأكثر من عشر سنوات مضتْ حتى ذلك الوقت، متخليا عن المأكل والملبس والسفر وحتى الارتباط بحبيبة ما، في سبيل تغذيتها بالكتب والأوراق والأسرار اللازمة، وكانت المكتبة تضم إلى جوار ذلك الصور القليلة لطفولتي في سبعينيات وثمانينيات القرن الفائت، ذكريات ربع قرن كامل انهارتْ بسهولة مفرطة تحت ثقل ظلام ليلة وحيدة وباردة، أتت بلا وحي يخبرنا بضرورة وجود سفينة ما، ولم ترحم فرحتنا البكر بزواج الصديق الأول في شلتنا الكبيرة آنذاك.

   هكذا ظللتُ بعدها لسنوات طويلة أعيش بفكرة أنني رجل بلا ذكريات، وفي الشتات العظيم الذي خلقته تلك الفكرة، وألبسته رداء اللامبالاة، ووجهته نحو اللا شيء واللا مستقبل، أتى الوعي والإبداع كطوق نجاة مرتديا ثياب الحكمة، وقاذفا بداخلي سؤاله الضخم، وهو يُصر علي الفوز بإجابة شافية، وماذا بعد؟! كان ضخما لا وحشا، وكان من الرحمة بحيث سرسب إلى داخلي ما يخبرني بما يشبه اليقين، أن بيتنا القديم لم يكن مكان المكتبة، وأن مكانها الحقيقي يكمن هنا، وأشار إلى رأسي.

   تعودت عصر الذاكرة، وتتبع الصور، ومع الوقت نبتت لي عين سحرية، شقَّتْ طريقها إلى الكائن الأزلي القابع بأعمق أعماق الداخل، والمتواري خلف الزمن وتراكم أحداث الحياة، لم أعثر على كتبي وأسراري فقط، بل عثرت على صوري أيضا، وأضاف عصير الذاكرة إليها الكثير والكثير من الصور التي لم تسجلها عدسة الكاميرا، حتى قبضتُ على طفولتي كاملة، فانتهت مرحلة الشتات وعرفتُ ذاتي إلى حد كبير.

   العثور على الطفولة ليس نزهة للتريض في منتزه وقت شروق الشمس، ولا سباحة واهنة في بحر هادئ وقت الغروب، العثور على الطفولة هو عثور على مفتاح الكنز الذي سيلج بك إلى ذاتك، وبالنسبة للمبدع هو العثور على الكنز نفسه دفعة واحدة، فلم تعد الحياة فقط أجمل وأبهى من الشتات، بل وصاحبة عمق أيضا، وهو العنصر المميز للإبداع بعد امتلاك أدواته، ليس عمق الامتداد في الزمن، فجميعنا كذلك، بل عمق الامتداد في الذات، عمق الخصوصية الذاتية التي تستمد كينونتها من الكائن الأول الأزلي القابع بالداخل، والذي لا يشبه أحدا غيرك، ولا يشبهه أحد إلا أنت.

   الطفولة نبع دائم الوجود إلى جوار المبدع، لا ينضب ولا يستعصى على المجيء حين تتم دعوته بصدق، وهنا تكمن الصعوبة، فالكتابة عن الطفولة تحتاج إلى هذا الكم المرعب من الصدق الذي تعجز عن حمله كثير من الأقلام وهي تستسهل الانسكاب على الورق، أو وهي ترضى بالتريض والعوم على السطح بغية الوجود العشوائي، نعم الكتابة الإبداعية كلها تحتاج إلى ذلك الصدق، لكن الكتابة عن الطفولة سترميك مباشرة في مواجهة الكائن الأزلي بداخلك، لتجد الأمر وكأنه وقوف بين يديّ إله، يصعب الكذب أو التجمل في حضرته، ويحاسبك بقدر ما يهبك، وأنا لا أكاد أعرف أكان من حُسن حظي أم من سوئه، أن أواجه كائني الأزلي في بداية الطريق، كنت خارجا من متاهة الشتات بعين سحرية مكتملة، وكانت نظرتها شاملة وحادة، وطريقها إلى العمق الداخلي ممهد إلى أقصى مدى، لم أكن أتحسس طريقي أو أسير ببطء كاشف، بل انزلقت دفعة واحدة لأرتمي في حضنه، وبدتْ ضمة الكائن أشبه بضمة القبر، تتكسر لها الأضلع، لكنها قادرة على إعادة التكوين تماما كما كنتُ في سيرتي الأولى.

   كان اسم القصة "صورة الحزن الدائم" في مجموعتي القصصية الأولي "أزمنة الآخرين" وكانت طفولة خالصة وصادقة، وقادرة على رصد التغيير الذي أصاب قرية "المعنَّي" بفعل مرور الزمن، ومن يومها لم أفارق النبع، وظل الماء يجري من تحتي مع كل قصة أو رواية، وصارت الطفولة شبحا يكتنف الحكايات أيا كان شكلها، وبصدق لم أزل أدفع ثمنه إلى الآن.    

   وكنتُ كلما مررتُ على مراهقتي وشبابي ورجولتي ينبت بداخلي في كل مرحلة كائن ما، يقف على رأس الكائن الذي سبقه في المرور عليّ، لا ليمحو آثاره، بل ليستمد روحه وحياته ووجوده منه، فيتطاول شامخا من فوقه مشكلا مزيجا لكائن خارجي يشبهني إلى حد كبير، وأنا أسترق النظر إليهم عبر عينه السحرية كلما أردتُ أن أخلو إلى نفسي من ثقل الحياة، فأجدهم جميعا يقفون على رأس الكائن الأزلي الأول لطفولة التكوين، يستمدون منه ثباتهم في مواجهة شقاء الدنيا، وعبثها المفرط.

   هو أساسهم المتين، ونبعهم الذي لا ينضب، وسيدهم الذي لا يكل عن النفخ في أرواحهم لأواصل وجودي.