الاثنين 29 أبريل 2024 - 07:38 صباحاً - القاهرة

     

 

 

               

 

  أحدث الأخبار

 

 

  الأكثر قراءة

 
 
 

ما أسباب تراجع الأغنية

  ازمة صوت

  ازمة كلمة

  ازمة لحن

  غياب دور الدولة في تبني أصوات جادة


نتائج

 

 
 
 

بسم الله ربنا الذى فى السموات


د. السيد نجم
الخميس 28 مارس 2019 09:20:27 مساءً



من لم يعش فى الصحراء لليلة واحدة، لا يمكنه أن يعي ما سوف أقصه عليك حالا!

لأنك ببساطة لن تشعر بكل المشاعر المرعبة الدفينة التى تظن أنك كبرت ﺇلى الدرجة التى لا معنى معها أن تعلن عن شعورك بالخوف من الظلمة..

هل تذكرت الآن حجرة الفئران المظلمة التى فيها لا ترى سوى أسنان الفئران اﻹبرية شديدة البياض؟!

هل نسيت أننا تربينا على أن الظلام مرادف لمشاعر الرعب ومولد لها..؟

ماذا تقول فى حجرة الأشباح التى ندخلها، أو كنا ندخلها فى الملاهي، ولا نرى فيها سوى الأشباح الوهمية والأصوات الزاعقة المفزعة؟

وماذا تقول حتى يوم الجمعة الفائت فى خطيب المسجد من فوق المنبر الخشبى يصيح ويحذرنا من الويل والعذاب العظيم مع ظلمة القبور، التى هى مستقر حياتنا ﺇلى أن تقوم الساعة؟!

لن أفيض حتى لا العب دور خفى دون أن أقصد فى بث الفزع فى نفسك، عندما أخبرك ببساطة ما حدث فى تلك الليلة الليلاء المظلمة منذ قرابة قرابة النصف قرن، بالضبط منذ الرابع والعشرين من أكتوبر عام العبور، بعد ﺇسترداد عشرين كيلو مترا من سيناء خلال ست ساعات فقط.

 

المكان: الكيلو 105 طريق القاهرة-السويس، أرض المستشفى الميدانى رقم 5

الزمان: فى تمام الساعة العاشرة ليلا فى 24 أكتوبر

 

ما كان يعرف عن جنود الوحدة والضباط الأطباء إلا المشاكسة والهزر فور اﻹنتهاء من المهام الثقيلة, عموما جنود القوات المسلحة المصرية أطلقوا علينا لقب "سلاح الكعب العالى".. ما أن تمر السيارة المحملة بجنود المستشفى، ﺇلا ويطل جنود الأسلحة الأخرى من سيارتهم ويصيحون بحرقة: سلاح الكعب العالى أهم؟!

جنود الوحدة غير مبالين بشىء البته.. صوت ﺇنفجار هنا, وأزيز طائرة هناك, ودوى مدفع بعيد, وحتى آهات لا تنقطع فى العنابر داخل الدشم التي نقوم على تمريض روادها.

مع بداية المعارك صام الجنود والأطباء, المصابون والمعالجون.. بغية ملاقاة ربهم تائبين,  حتى بعد أن أفتى شيخ الأزهر باباحة اﻹفطار مع واجب الجهاد.. وﺇلى فترة تالية حاصرتهم فيها القوات الإسرائيلية بعد ثغرة "الدفرسوار"..

 

كانت مرحلة جديدة على حالنا وأحوالنا، لم نفكر يوما أن تحدث.. فالوحدة مهددة باقتحام وحدتنا، بعد أن أبلغنا رجال الحراسة بما تلاحظ من بدء حملات ﺇستطلاع مكثفة من بعض أفرادهم على حدود وحدتنا، تمهيدا ﻹقتحامها..

نحن مجموعة من الجنود والأطباء داخل مبنى من الدشم الخراسانية فى حضن التبتين المتواجهتين وسط رمال الجانب الأيمن من طريق القاهرة – السويس، كل مهمتنا هو ﺇستقبال المصابين وﺇجراء العمليات الجراحية السريعة، وعمليات الكسور، واﻹسعافات الأولية للجروح.

كما ﺇستقبلت الوحدة بعض من أفراد الكتيبة الكويتية، وأيضا الجنود السودانيين، الذين ﺇنتشروا فى أكثر من موقع.. فيما بعد قالوا لى أن هناك على بعد كيلومترات قليلة توجد دبابات بأطقمها العراقية، لكننى لم أر.

بعد مضى حوالى ثلاث أسابيع أو أقل قليلا، ما عدت أتذكر التواريخ، لكننى أتذكر جيدا أنه فى هذا اليوم تحديدا من بداية المعارك ﺇنتابتنى وخزه فى أمعائى للمرة الأولى، لم أكن أستشعرها من قبل. يوم أن صدمنى مشهد علمهم أمام حدود وحدتى.. عندما  لمحت الخطين الزرقاوين يحتضنا نجمة داود السداسية! هى الثغرة ﺇذن.. ولو!

 

ﺇنقضت خمسة أيام بلياليها.. لا سيارات الوحدة وعربات اﻹسعاف يمكنها الخروج من الوحدة، ولا سيارات الوحدات المختلفة التى تحمل بعض المصابين، يمكنها الدخول أو حتى اﻹقتراب من مدخل المستشفى المحاصر..

ولما كان عدد المصابين يتجاوز الخمسين, والعزلة مره, فلا المصابون يتناولون العلاج الواجب بعد نقص الأدوية، حتى ماكينة التوليد الكهربائى كفت العمل بعد أن ﺇنتهى الوقود اللازم لتشغيلها، وبالتالى توقف عنبر العمليات الجراحية.. الملل غلب الجميع.

 

كان قرار القائد.. نقل المصابين ﺇلى مكان آمن، مستشفى السويس، عن طريق جبل عتاقة، الذى يبعد كثيرا عن تناول فوهات مدافعهم وبنادقهم، وبما يشبه المعجز تمكن أحد الجنود من اصلاح ﺇحدى السيارات "الزل" وهى التى تكفلت بالمهمة حتى السويس..

مع غياب قرص الشمس ﺇنتهت المهمة، ولم يبق ﺇلا المهمة الأخرى التى لم تخطر على بال أحدنا، ﺇلا من القائد؛ أن يتم دفن الشهداء الثمانية حالا والآن ومع الظلمة والعتمة والأجساد المجهده.. بينما راودتنى رغبة أن أعيش لذة الألم العقلي..  الشرود يعفينى ولو قليلا من حرمانى من الطعام والشراب مع ممارسة "اﻹسترخاء" و"التخيل" كما يفعل أهل "اليوجا"، وذهبت وحدى..

ما كانت دقيقة ولا ساعة ولا أكثر أو أقل، ﺇنتبهت بعدها على صوت القائد نفسه، يصرخ باسمى كى أساعده فى مهمة الدفن.. الظلمة جعلتنى لأظن أنه لا يسمعنى بينما أنا اكتفيت بالصمت، يبدو أن الجميع فهم معنى صمتى.. صاح فى الظلمة طبيب الأسنان "بطرس" والجندى "أحمد"..

 

بدت المهمة مع الظلمة أشبه بمن يسبح فى بحر بلا قرار، يسترشدون بأصواتهم، ولم يكف أحدهم الكلام طوال تنفيذ المهمة حتى يمكن متابعة المهمة، على الرغم من الدمعات المصلوبه فى الخفاء تصنع غلالة فوق عيون الجميع ولا سراها أحد، وهو ما جعلها تتسربل وتخطو فوق الخدود عند البعض.

 

كانت آخر المهام تلاوة مناسبة للدفن، فكان السؤال: لكننا لا نعرف ان كان هذا الشهيد أو ذاك مسلما أم قبطيا؟

فكان ما همس به ونفذه أحمد وبطرس وكل السامعين أن قرأ المسلمين مع أحمد فاتحة الكتاب وقرأ قبط الوحدة "أبانا الذى فى السموات".. هكذا:

"أبانا الذي في السماوات. ليتقدس اسمك. ليأت ملكوتك.. لتكن مشيئتك. كما في السماء كذلك على الأرض.. خبزنا الذي للغد أعطنا اليوم.. وأغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضا للمذنبين إلينا.. ولا تدخلنا في تجربة. لكن نجنا من الشرير.. بالمسيح يسوع ربنا لأن لك الملك والقوة والمجد إلى الأبد". آمين.

"بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، ﺇياك نعبد وﺇياك نستعين، أهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين". أمين.

  ab_negm2014@yahoo.com