الاثنين 29 أبريل 2024 - 05:45 صباحاً - القاهرة

     

 

 

               

 

  أحدث الأخبار

 

 

  الأكثر قراءة

 
 
 

ما أسباب تراجع الأغنية

  ازمة صوت

  ازمة كلمة

  ازمة لحن

  غياب دور الدولة في تبني أصوات جادة


نتائج

 

 
 
 

عيون مينرفا


عبد الحميدشوقى - المغرب
الخميس 28 مارس 2019 09:34:51 مساءً



في حداثة الصورة الشعرية

تتمة

 

 

يجرنا خطاب الحداثة في الصورة الشعرية إلى أفق أرحب، وهو الحداثة في التجربة الشعرية التي أعقبت انهيار الأحادية القطبية للشعر التي كانت متمثلة في ما يسمى بالشعر العمودي. فالصورة الشعرية ليست إلا عنصرا من بنية كلية، وهي بنية التجربة الشعرية الجديدة. ما لم نفهم أننا أمام بنية منفصلة تماما عن بنية الشعر التقليدي، لن نفهم أبدا خصوصية الحداثة التي أسستها التجربة الجديدة.

  إن البنية الشعرية التقليدية كانت مؤسسة على التماهي، وليس على التفرد، على إعادة إنتاج نفس النموذج "الأزلي"، وليس على بناء شرفة فردية تطل من خلالها الذات على العالم بروحها الديونيزوسية، على حد تعبير نيتشه، التي لا تسجد أمام كهنة االمذبح الشعري القديم لتستجدي مكانا لها في التاريخ "الرسمي" الممتد عبر عشرات القرون، وإنما تريد فقط أن ترى الوجود بعين أخرى، هي العين الجمالية التي تتغنى بكل تفصيلة في العالم، وكل جزئية في الطبيعة المحسوسة، وتعتبرها تجليا باهرا من تجليات العنفوان الشعري. لقد كان ديونيزوس ابنا لأرواح الغابات وربات الفنون اللائي تكفلن بتربيته، وعلمنه كيف ينظر إلى الوجود بأكمله من خلال الفن، ومن خلال الجمال، ومن خلال الشعر الذي هو أحد التعبيرات عن الجمال. فأن تكون شاعر، هو أن ترى الجمال متجسدا في هذا الوجود الحسي الحيوي، وليس في ما هو متعال ومفارق، كما اعتقدت التقليد السقراطي الذي سيؤبده أفلاطون.

لا تريد التجربة الحداثية الشعرية الجديدة سوى أن تقدم لنا شاعرا قادما من لامكان، وليس من سوق عكاظ، شاعرا يريد فقط أن يلعب، أن يفرح، أن يرقص رقصا طفوليا، أن يتغني بما في الطبيعة من سحر، بما في الأشياء من دهشة، وأن ينثر أشعاره كما لو كان ينتشي بخمرة معتقة توصله إلى ذروة النشوة، لا أن يفتح كوابيس البلاغة ليقصف ذائقتنا بمقدراته اللغوية ومؤهلاته في البحث عن "وحيش الألفاظ". لم يعد في البنية الشعرية الجديدة شيء اسمه أغراض الشعر وطبقات الشعراء وما يجوز وما لا يجوز في الشعر والضرورات الشعرية، مثلما لم يعد في هذه التجربة مقاييس قبلية سابقة على القول الشعري نفسه، وحدود أزلية للشعر لا أحد يعرف من رسمها، لكن التقليدانية النقدية التي تأسست منذ عصر التدوين عملت على نقلها من المستوى الشفاهي اللاواعي إلى المستوى الكتابي الواعي..

  لنراجع كل ما تركته هذه التجربة الحداثية الشعرية، منذ بدر شاكر السياب وصولا إلى شعراء ما يعرف بقصيدة النثر، لن نخرج سوى بقناعة واحدة: لا وجود لشاعر "أمير"، لا وجود لتجربة شعرية "نموذجية"، لا وجود "لسلطة شعرية" تضع نفسها فوق الجميع. لكن بالمقابل، أصبحنا أمام "اختلاف" وأمام "تنوع" في التجارب الشعرية المرتبطة أساسا بالحياة وليس باللغة، بالذات وليس بالنحن، بالإبداع وليس بالاستنساخ. من كان سيلتفت إلى عنصر الطبيعة الحية الممزوجة بالبعد الأسطوري، كما فعل السياب في "أنشودة المطر"، أو كما فعل أدونيس في "أغاني مهيار الدمشقي"، أو تجربة الموت الفردي الذي يخترق الوجود من خلال مجموعة محمود درويش "في حضرة الغياب" التي انتقل فيها من تجربة "النحن" الفلسطينة- العربية، إلى تجربة "الأنا" التي تدرك موتها الحتمي، ومع ذلك تريد أن تستمتع بالحياة، وكأن كل دقيقة هي أبدية بأكملها:

ومن حسن حظي أني أنام وحيدا

فأصغي إلى جسدي

وأصدق موهبتي في اكتشاف الألم

فأنادي الطبيب بعشر دقائق قبيل الوفاة

عشر دقائق كافية لأحيا مصادفةً

وأخيب ظن العدم..

هذه هي صورة التجربة الحداثية الشعرية، حيث الموج الشعري الهائل الذي يشكل المحيط الأعظم، ولكن لكل موجة إيقاعها الخاص، الذي تعزف لحنها الخاص في تناغم مع  سمفونية الطبيعة.