الخميس 02 مايو 2024 - 05:28 مساءً - القاهرة

     

 

 

               

 

  أحدث الأخبار

 

 

  الأكثر قراءة

 
 
 

ما أسباب تراجع الأغنية

  ازمة صوت

  ازمة كلمة

  ازمة لحن

  غياب دور الدولة في تبني أصوات جادة


نتائج

 

 
 

الرئيسية ابداع "يوم رحلتْ البيوت" قصة : مصطفى منير

 

 
 

"يوم رحلتْ البيوت" قصة : مصطفى منير

  الأربعاء 20 مارس 2019 05:48 مساءً   




في صباحٍ لم نعهده، وفي لحظةٍ لم نفهمها، وجدنا البيتَ يتحرك بنا، كأنّ السماءَ خلعتْه من الأرض، وأمرتْه بالرحيل!

سمعتُ صوتَ أمّي خارج غرفتي، تصرخ وتحوقل، تعيد جملتَها: "القيامة يا عمران! القيامة يا عمران"، قامَ الخوفُ وسحبني معه، خرجتُ إليها، كانتْ ساجدةً، تبكي وتتضرع، كلما طلبتُ منها الوقوف رفضتْ، تهزّ رأسَها نفيًا، مشيتُ إلى باب الشقة، سامعًا ما يحدث خلفه، النّاس في العمارة يتهامسون، من الصدمةِ تقريبًا نسوا كيفيةَ التواصل بينهم، باغتتني طَرقةٌ، وللمرّة الأولى في تاريخ تعاملي مع الأبواب، أفتحه بدون التّأكدِ ممن الطّارق، سواء بالنظر عبر العَينِ السحرية، أو السؤال وهو أبسط الأمور، لقيتُ حارسَ العقار، عم حمزة العجلاتي، المجنون يطالبني بالإيجار، سألتُه عن كنهِ المُزحةِ التي يمارسُها، أقسمَ إنّها أوامرُ صاحبِ البيت، صرختُ به: "إيجارُ البيتِ الذي يتحرك هذا؟ ستحصل عليه حين نصل!"

في دقيقةٍ ونصف، شرحَ لي أسبابَ الطلبِ الغريب، صاحبُ البيتِ لا يملك تفسيرًا للظّاهرة، يجهل متى سنصل، وبالطبع –وهذا نقلًا عن صاحب البيت- هناك إمكانية كبيرة للموت، والإيجار الأخير سيكون إرثًا لابنه الوحيد، التفتُ إلى أمّي، لم تقم حتى الآن، تبكي وتسجد، من تلعثمي في الكلام، فهمَ حمزة أنّني مفلسٌ، حرّك عينيه تجاه والدتي، وبنفس حركة العينين رفضتُ، حيث أنّها في حالة فزعٍ، لا تسمح لها بالحديث عن المال، اتفقنا على مواصلة سعيه مع الجيران، حتى أتحصّل على المال، وافق بعد زفرةِ زهقٍ وهزّةِ يأس.

توجهتُ إلى النّافذة الموجودة بالصالة، المشهد مهيب، البيوتُ كلها تتحرك في بطءٍ منظّم، جنازةٌ ضخمةٌ تسير، فرقعةٌ خطواتهم مخيفة، حجرٌ يَدُكَّ حجرًا أسفله، تشعر بعلو الصّوتِ ودنو مكانتك، الشوارع ثابتة، النّاس نوعان، نوعٌ يصرخ والآخر صموت، يتأمل الموقف، يريد النّهاية، هذا بخلاف المجموعة المجنونة، التي قررتْ النّزول والركض بعيدًا، وهنا السؤال المُحيّر;منذ متى ونحن نهرب من البيوت؟ كنّا دومًا نهرب إليها، نقول لأنفسنا متى العودة أو اشتقتُ إلى البيت، ولكن صباحَ اليوم تغيّر كل شيء.

جلستْ أمّي فوق الأريكة، سألتني في قلقٍ واضح: "ما الوضع عندك يا عمران؟"، الإجابة واضحة أصلًا، الطمأنينة هي ما تنشده أمّي، عدنا إلى الأسئلة المحيّرة مجددًا;منذ متى ونحن من نطمأن الأم؟ مصدر كل راحةٍ هي، قلتُ لها بصوتٍ مبحوح: "صبرًا يا أمَّ عمران، ربّما قاربنا على الوصول"، قبل أن أسمعَها;ركضتْ البيوت فجأةً، في حركة جنونية، كأنها تتسابق، وقعتُ على الأرض، سمعتُ بكاءَ أمّي، تصيح: "يا رب! نحن عبادك يا رب، قليلو الحيلة، هبنا أمانًا ورحمةً"، الصرخات بالخارج تتعالى، النّاس بدأت تقفز من النوافذ، اللا منطقية تتحكم ببراعة، صوت احتكاك الحجرِ بالحجر لا يُحتَمَل، كأننا نسمع صوتَ قنابلِ تنفجر تحتنا، الوضع كارثي، أمّي فقدتْ الوعي خوفًا، لا أستطيع الوقوف، حركةُ البيوت السّريعة تمنعني، بعشوائيةٍ فجّة يتحرك جسدي هنا وهناك، تارةً أجدني تحت الخوان، وتارةً أخرى تحت الأريكة، أمّي فوق الأريكةٍ وأنا أسفلها، تحافظ عليها من الصدمات، لم تقع أمّي بالرغم من غوغائية الموقف.

هدأتْ الأمور، أسرع من نمرٍ ركضتُ إلى النافذة، البيوت كلها، تقف في ترتيبٍ مستفز، تصنع دائرةً عملاقة، حول كوخٍ متهالك، النّاس من الشرفات تتعجب، تنظر إلى بعضها البعض، بعد وقتٍ قصير، خرجتْ سيّدة عجوز من الكوخ، عجوزٌ تتكيء على السيرة الطيّبة وكرمِ ربّها وما تبقى من طاقةٍ تسندها، تأملتْ المشهد وابتسمتْ، رفعتْ نظرَها إلى السماء، وقالتْ بصوتٍ مسموع، للقريب والبعيد: "كل هذه البيوت من أجلي؟ طلبتُ منّك فقط الستر، فأرسلتَ لي بيوت المدينة، هل تهبني ميتةً تليق بعجوزٍ، لا تملك من الدّنيا شيئًا، سوى الدّعاء؟ يا ربّي، أنا طمعانةٌ أيضًا في قبرٍ، يحفظ جثماني الهزيل بعد الموت" ثم تحرّكتْ خطوتين وسألتْ: "يا أهل الله، من الكريم ابن الكريم، الذي سيتقبّل وجودي لديه؟ والله العظيم يكفيني سريرٌ واحد في مكانٍ دافيء، أعرف حكاياتٍ حلوة ستسلّيكم!"، من هول الصدمة لم يخرج صوتٌ واحدٌ منّا، النّاس ينظرون إليها واجمين، جميعهم بلا استثناء، قالتْ في نبرةِ أسفٍ: "اعتذر جدًا عما حدث، نحن الفقراء إلى الله، نعيش طوال حياتِنا، على أمل حدوث معجزةٍ، تهوّن علينا رصاص الفقر، تنقذنا منه إذ أمكن، وهذه معجزتي، معجزة البيوت التي مشتْ إليّ، بأمر خالق المعجزات والبيوت."

 

أخبار اخرى فى القسم