الثلاثاء 07 مايو 2024 - 12:31 مساءً - القاهرة

     

 

 

               

 

  أحدث الأخبار

 

 

  الأكثر قراءة

 
 
 

ما أسباب تراجع الأغنية

  ازمة صوت

  ازمة كلمة

  ازمة لحن

  غياب دور الدولة في تبني أصوات جادة


نتائج

 

 
 

الرئيسية ابداع "فونوغراف قديم " قصة مصطفى البلكى

 

 
 

"فونوغراف قديم " قصة مصطفى البلكى

  السبت 30 مارس 2019 05:48 مساءً   




مع أول خطوات له, تعثر وكاد يقع, لولا تركيزه, ومع ذلك لمح التباين الظاهر بين الرجل وزوجته, وأيقن أن هناك فجوة بينهما, فالحياة الكاملة في عينين عسليتين, لا تنسجم مع عينين غابتا في محجرين, وهو يضع الفونوغراف في مكانه الذي دله عليه الرجل, قال لنفسه: ربما أنا لا أعرف ما يدور, وحتى لا يتوه في جب الأسئلة..

 تابع سيدة البيت وهي ترفع الكتب والأسطوانات القديمة من فوق الخوان, ثم وهي تتراجع, لتفسح له المكان, لفحه عطرها, فعرف أنها تتمسك بخصوبة الأيام, وتخيلها كأنها جسد مبتل بالرغبة, يركض من نهر جف إلى آخر يفيض, وبعد وضع الفونوغراف, استدار, فجاءت عيناه في عينيّ المرأة, فهمس: كيف تكون الأيام عادلة, زوجها سأله عن العطل في الفونوغراف, وجدها فرصة ليطيل وقت وجوده, , قال له هذا النوع حساس جدا, فحينما يزيد الضغط عليه, تصبح الاهتزازات التي تحدثها الإبرة غير منتظمة, وبالتالي يكون الصوت غير مكتمل, وسكت, ومد يده ولمس الإبرة المتصلة بغشاء القرص الهزاز وتابع:

  • هي السبب, حينما ترقص كثيرا, سينالها التعب, ومن قال لا أعرف عطبها, فهو فاشل يختبئ خلف وهمه.

ومنذ تلك الزيارة, باع حرية قلبه, وأصبح مرهونا بأي شيء يصله من المرأة, فأكثر من تجواله حول البيت, وأصبح متلهفا لسماع صوتها, وللمصالحة مع الأيام, حاول معها, وفشل, فعرف أن الرجل يهزمه, وبقي أن يعترف بهذا, لحظات لم تغب عنه كثيرا,  أقر بتلك الحقيقة, وأدرك أنه انتصر على نفسه،وخشي أن يثقل همه, فأحب العزلة, وضاقت مساحة التفاهم بينه وبين الناس, وفي اللحظة التي غرق فيها في الحزن, ورأى الحياة من حوله تمضي في طريق وحيد, رسم لها, فهجر الحي, وترك دكان والده, وترك مهمة فتح الأبواب المغلقة للأيام, واضعا أمام عينيه أنها ربما لن تفتح إلا بحزن آخر.وقال لنفسه وهو يمنح المدينة جل وقته: لست وحيدا, فوجودها يكفي لملء الليالي.. فأنكر الحاضر, ولم يكلف نفسه عناء سد أي ثقب يفتح, حتى جاء يوم قيل له فيه: الرجل مات, ولد من جديد, وقال: الحاضر هو الحقيقة الوحيدة, وصرخ في وجهه الذي ظهر في المرآة, من أنت لتكون شوكة في قلب عجوز لم يقدم لك الشكر؟

وحينما دخل البيت, رحب به والده, وبعد تناول وجبة العشاء, وصلهم صوت ينعي الرجل, ويخبر الجميع بميعاد الجنازة, صمت العجوز, وقال بعد أن مسح دمعة فرت من عينه

: ـ مات الرجل, والفونوغراف ما زال في المحل.

 سقط خيط رفيع جدا داخل جسده, فرأى امرأة شابة بشعر أسودتنتحب, وتحاول أن ترسم حدودا للحزن لتهرب من عيون العجائز ومن رائحة الموت التي تسكن البيت, وحدها هي تدرك أنها ماكرة, ومدهشة, فقط ينقصها أن تصبح عاشقةأيقن أن الصدفة تلك ستكون خادمته الوفية, وحينما ينتهي الحداد ستكون السلطة الفعلية في قوة نظراته, وقوة إصراره..اجتنب إزعاج والده, وقال, لا شيء لا يمكننا التمسك به, وكل شيء قابل لأن يكون هناك، فتخلص من كل الأفعال التي كان ينتقد بسببها, تخلص من كل شيء إلا طيفها. فهل يمكن للإنسان أن يهرب من القدر؟ سأل والده, فأجاب

 ـ لم ولن يحدث.

وانهمك في العمل, وهو لا يغادر الفونوغراف, وتذكر كلمات والده كلما كان  الرجل يأتي به: ـ آلة تنطق بما يأسر القلوب, تظل شابة, وتبهج كلما استعادت عافيتها.

وبشعور من عاش فاجعة الموت, حاول تخيل البيت من غيره, هل ينعكس الغياب على سيدته الآن؟ ولأنه لا يقرأ الغيب, أهمل السؤال, وأمسك بالفونوغراف, أعاد له لمعته, وبعد أن انتهى, تذكر ما كان قد قرأه ذات يوم: لا تقتل الدهشة والفضول بداخلك, فالحياة دائما تجري بطريقة لا نفهمها.

 غادر المحل, وتجول بالقرب من البيت, راقبه, كفرد تحريات, في البداية كان متخفيا خلف صف من الأشجار المتداخلة الأغصان, التخفي قاده إلى اكتشاف أن كل من دخلن البيت من النسوة لم يتجاوزن أصابع اليد الواحدة, فاقتنع بأن الراحل ليس لديه عائلة في المدينة.

وعندما دخل الليل, وندر وجود مارة في الشوارع, خرج, اقترب من البيت, وجد بابه قد أغلق جيد, وخلفه يربض كلب مشدود من عنقه إلى وتد بواسطة سلسلة, لم يجفل, ولم يسكنه الخوف, ابتسم له وهمس: تحرس من تنام الآن في بيت لم تغادره رائحة الموت, ويغيب عنه صوت البهجة.

وتحرك حول البيت, مستترا بالظلمة, وأنصت لسؤال عرف الطريق إليه هل مات الرجل من تخمة الحب؟ كاد أن يبتسم, فالخاطرة غريبة, ولأول مرة يفكر فيها. وعند عودته, دخل المحل, أغلقه على نفسه, ووضع أسطوانة في الفونوغراف, ومع انطلاق الموسيقى, غرق في خيالاته, رسم كيف يكون اللقاء, وبعد أن فرغ من الانتشاء, رجع للبيت, دخل غرفته, زاره الكابوس, رأى الكلب يطارده, وبدأ العواء شديدا, وفي لحظة عبثية, أصبح هو يطارد الكلب, وفي الصباح كان العواء ما زال يتردد, يسمعه واضحا لا لبث فيه, يأتي من كل مكان يكون فيه, حتى وهو يراقب البيت, كان يزوره من وقت لآخر, ورغم  اكتشافه أنه لم تتردد أية نسوة على البيت, إلا أنه كان مشغولا بالكلب, ولم يمض النهار إلا وهو يقرر مصيره, ألقى له قطعة لحم نيئة مدسوس فيها السم.

وهو يدخل من الباب الخلفي, وصله صوت, فوقف في مكانه, أنصت فسمع صوتها لا تكن سخيفا إني أتكلم بجد.  الجملة حولته لركام, وأصبح لا يعرف إلى أين يذهب, أيعود من حيث جاء؟ أم يكمل ويرى ما يدور في الداخل؟ وقبل أن يقرر, وصله الصوت للمرة الثانية:  أنا مرهقة اتركني. دفع الباب فوجد نفسه في ردهة مظلمة, وكل الأنوار مطفأة, والصمت يخيم على كل شيء, والنور الوحيد شريط مستطيل, يأتي من باب موارب, وحتى يبث الجرأة في جسده, استدعى جسدها الممتلئ, وصدرها الكبير, والمؤخرة المتماسكة التي تظهرها العباءة, صلبة ومتماسكة. ـ لا تتوتر وصله الصوت للمرة الثالثة, فارتعد, وتبددت الجرأة, وبينما هو يفكر في مداهمتها, وصلة الصوت لرابع مرة:  

ـ أنا عاهرتك.

قال لنفسه:

ـ لا أستطيع أن أتحمل أكثر.

واندفع نحو الباب, ركله بقدمه, ودخل, وجدها عارية, تكلم صورة كبيرة لزوجها الراحل.

 

أخبار اخرى فى القسم