الأربعاء 08 مايو 2024 - 11:09 صباحاً - القاهرة

     

 

 

               

 

  أحدث الأخبار

 

 

  الأكثر قراءة

 
 
 

ما أسباب تراجع الأغنية

  ازمة صوت

  ازمة كلمة

  ازمة لحن

  غياب دور الدولة في تبني أصوات جادة


نتائج

 

 
 

الرئيسية ابداع " حُلم ابتهال" قصة : عبد الله السلايمة العريش

 

 
 

" حُلم ابتهال" قصة : عبد الله السلايمة العريش

  الأحد 14 أبريل 2019 01:40 صباحاً   




 

 

لو لم أطِل الجلوس بالمقهى في مساء ذلك اليوم، لما كنت قد صادفت "سمير"، ومن المؤكد لن أجد نفسي متورطًا بدفع ثمن مشروباتنا من احتياطي ما تبقى لدى من راتب هزيل بطبيعته.                                                      

لم أره منذ افترقنا قبل سبعة عشر عامًا، فقد أنشغل بحياته في المهجر، وانشغلت بشئون حياتي التي ــ منذ خسرت ابتهال ــ لم يجِدُّ على أيامها الطويلة، ولياليها الأكثر طولاً، شيء يذكر.

لم يكن "سمير" موهوبًا، وبالكاد حصل على مؤهل دراسي متوسط، والشيء الوحيد الذى كان يميزه، ليس كونه الوحيد من بيننا الذى كان لديه العزيمة الكافية للهروب من "رفح"، ومحاولة أن يصنع من نفسه شيئاً ما، بل شبهه الكبير بأخته "ابتهال"، الوسامة، استدارة الوجه ونضارته، العينين الواسعتين السوداويين، الشفتين الرقيقتين.

شعرت بدفقة فزع حينما رأيته، وفيما أخذ يستحضر بعض ذكرياتنا القديمة، سيطرت عليّ فكرة، أنه لابد قد عرف بأمر علاقتي السابقة بأخته، وربما يخطط لشيء ما، يناسب جرم خيانتي لصداقتنا القديمة.

تحايلاً على هاجسي، وكوسيلة للتخلص من ثرثرته، قاطعته سائلاً: متى عاد إلى الديار؟!

فأجاب:                                                                          ـ منذ بضعة أيام.

وواصل الثرثرة بلا توقف في أمور لا تهمني حول حياته الخاصة، وقبل أن يهم بالمغادرة، دس يده في جيب سترته الداخلي، ثم أخرجها بقلم، فتش في جيوبه باحثًا عن ورقة يدوّن بها عنوانه ورقم هاتفه، ولمّا لم يجد، وجدته يجذب كتاب "بيت حافل بالمجانين" ابتعته مؤخرًا واتلهف على مواصلة قراءته.

وامتلأت غيظًا ما لبث أن تحول إلي غضب، ليس فقط بسبب قوله باستخفاف: أمازلت تقرأ؟!، بل بمحاولته تشويه بياض أول صفحات الكتاب بما كان يريد كتابته، ما دفع بي للإسراع باسترداده قبل إقدامه على ارتكاب هذه الجريمة.

ـ ماذا تفعل

ـ كنت سأدون لك عنواني ورقم هاتفي

فرفعت الهاتف أمام عينيه، وقلت: كان يمكنه تسجيل رقم هاتفه هنا.

فرد ممتعضًا: بأني لم أتغيّر ولازلت كما عرفني من قبل، وسجّل رقم هاتفه، وهو يؤكد بأنه سيكون في انتظاري مساء اليوم التالي.

تقبّلت مُكرهاً واقع أن الحياة أخذتني لمكان آخر، لأن أعمل معلمًا، وأجد نفسى متورطًا ليس بالعمل في مهنة لا أحبها، بل بالتدريس لفتيات بالصف الثالث الثانوي، ويكدن يقاربنني سِنًا. وبفعل قلة خبرتي أتعامل معهن كصديق، وأتصرف بتلقائية لا تخلو، أحيانًا، من خبث راق لأكثرهن، وزاد من مساحات تخيلات "ابتهال"، واستسلامها لفتنة أحلام رائعة جعلتها تهيم بي بعنفوان مراهقة تحب للمرة الأولى، وحشدت روحها بأمل أن أبادلها شعوراً، لم تتجرأ على الجهر به.

كان ما تمر به يُمثِّل اكتشافًا جديدًا لها، وسببًا في تشويش ذهنها، ومضاعفة شعورها بالألم، ليس كونى قريبًا منها، وبعيدًا عنها في آن، بل لقلقها وخوفها من أن يتبدد حلمها إذا لم تؤمن به وتسير خلفه، ما جعلها لا تكترث لانتقادات أقرانها، ولا تبحث عن مبرر للتحدث لي، كلما وجدت فرصة لذلك.

في الوقت الذى صوّر لها خيالها، أن حلمها آخذٌ في التحقق، وبدا لها أنه يمكنها أن تبوح لي بما يملأ روحها، وجدتني أتعامل معها بقسوة أطفأت شعلة روحها، وحطمت دوافع الحياة داخلها، وأدركت أن الحلم الذي كان يشعرها بالانتشاء، بدأ يتبدد أمام عينيها في لحظة مؤلمة، حينما فاجأتها بحقيقة ارتباطي بفتاة أخرى.

بدت مصدومة، وبالكاد تصغي لنصحى، ومحاولتي الفاشلة إفاقتها من سكرتها، جاهدتْ لاستعادة نفسها، والسيطرة على انفعالاتها، وبذلت جهدًا لمنع نفسها من البكاء، قبل أن تتساءل من خلف غشاوة دموعها: هل أحب الفتاة؟

تلكأت في الإجابة، حتى لا أتسبب في اتساع جرحها، فبعض الجراح لا يُشفى، بل يظل يتقيح لوقت طويل.

أشعرني الصمت المتكاثف حولنا بالارتباك، حاولت اختراقه بتحذيرها من مغبة خوضها في أمر لا يخصها، وأن ليس بوسعي تحمل المزيد من النقاش حوله.

وكما لو كانت تذعن لمصيرها، استقبلت كلماتي بحزن صامت، ونظرات عتاب قاس، ومن ثم تحاملت على فجيعتها لتستقيم واقفة، وقبل أن تبلغ باب الحجرة، وجدتها تستدير نحوى، وتقول بصوت موجوع: أني لن أراها ثانية، وسوف تتزوج بأول طارق لبابها.

اعتبرت تهديدها لا يتعدى كونه مناورة، عليّ أن أخوضها متسلحًا بضميري الحي، وحسمها لصالح ابتهال البعيد، لكنني مذ تفاجأت بخبر خطوبتها لشاب لا يستحقها، ظلت تسيطر عليَّ فكرة، أنى السبب في دمارها، ما كان يعرضني في أحايين كثيرة لتعذيب ضمير قاس.

في منزل "سمير" الذى يُطل على بحر "العريش"، استقبلني بحفاوة لم أشعر بها، أمام شعوري بالارتباك، وقد بدت لي" ابتهال"، موجودة في وجهه، وشعوري القوى بوجودها ثانية بعد كل هذا الغياب، وتأثري لدرجة الرغبة في احتضانه، وطبع قبلة قوية على شفتيه.

تجاذبنا أطراف حديث لا أتذكر منه سوى ما دار بيننا في حزن عن" رفح "، تلك التي باتت خَرِبة، وحديث سمير بحزن بالغ، عن "ابتهال" التي ترملت مبكرًا، بعد أن اغتال الظلاميون زوجها، تاركًا لها طفلين تكفل برعايتهما.

ـ من.. ابتهال؟ تساءلت منزعجًا

ـ هل تعرفها؟..                                                                                    

 ـ نعم.. كنت معلمها بالثانوية.

وسرّني أن بدا لا يعرف ما حدث بيننا، ما أشعرني بنوع ما من الارتياح، ما لبث أن تحول إلى فزع، حين رن هاتفه الخلوي فجأة، وراح أحد أقاربه يخبره بأن منزل عائلته" برفح "، قد تعرّض لقذيفة دبابة، أحالته في لحظة إلى ركام.

انطلق بالسيارة كأن به مس من الجنون، كاد يذهب بعقلي بدوري حينما وصلنا منزل عائلته "برفح"، وفجعني سماع أحدهم يقول في هلع: بأن جثة "ابتهال"، لم تزل مفقودة تحت الأنقاض.

 

أخبار اخرى فى القسم