السبت 04 مايو 2024 - 10:58 صباحاً - القاهرة

     

 

 

               

 

  أحدث الأخبار

 

 

  الأكثر قراءة

 
 
 

ما أسباب تراجع الأغنية

  ازمة صوت

  ازمة كلمة

  ازمة لحن

  غياب دور الدولة في تبني أصوات جادة


نتائج

 

 
 

الرئيسية ابداع "من دفتر أحوال محارب قديم" قصة : فكري داود

 

 
 

"من دفتر أحوال محارب قديم" قصة : فكري داود

  الخميس 24 أكتوبر 2019 06:52 صباحاً   




قفزت نظراته عند أطباق (الدِّش)، المتناثرة فوق الأسطح القروية، ذوات الدورين أوالثلاثة على الأكثر، تحركت في صدر عامل المدرسة تنهيدة حبيسة، قال: عندي طبق مثل هذه... ولكن... ها هي الرِّيبة تعود، إلى مُستقرها المفضل داخل عينيه، ثمة غُصَّة بقلبه تنغرس؛ على قنوات متعددة منذ أيام، وعيناه تتابعان سقوطا متجددا، لأناس تُزهق أرواحُهم، بعد بتر بارد أوتشويه، لأجزاء من أبدانهم، دون أدنى دهشة. عليه أولا اجتياز الأسفلت، ليعبر إلى الناحية الأخرى، حيث يقع مبنى المدرسة التي يعمل بها، على حافة البلدة. لامسَتْ أنفُه برفق، رائحة زهرات البرسيم، وثمار البرتقال من المزارع القريبة، حرَّكَتْ بداخله حديثا مليئا بالحنين، إلى أيامه الخوالي، قبل وقائع معركته القتالية الأخيرة. جالت عيناه مُتَابِعَةً الزحام الصباحي للطريق، عربات ركاب قديمة، تحمل صِبْية القرية، الباحثين عن مهن عديدة، بمدن صغيرة مجاورة، عربات كارو بأحمال البرسيم، وحمير، بهائم مسحوبة وأخرى سائبة. عاودَتْ عيناه التجوال، حطت فوق طريق الغيطان المحببة، التي انقطعت قدماه عن السير فوقها، منذ آخر عودة له من المعركة، مودعا طقم المدفع بكتيبته. تحركت شفتاه رغبة، في صنع بعض الكلمات فلم تستطع، شملته إحدى العربات بدخانها الكثيف، فبات كطائر غريب، وسط هالة من ضباب،علَتْ فمه ابتسامة يائسة، قال مشيراً للكرسي المتحرك تحت مقعدته: وعندي أيضا سيارة متحركة... ها ها ها... حركتْ يداه بَدَّالَ الكرسي المتأهب للحركة، ازداد توتر عجلته الأمامية، ارْتَجَتْ العجلتان الخلفيتان، يقينه أكيد أن عربته - الكرسي - ، باتت سجنه، ومحنته، منذ أوْدَعَ ساقيه أمانة، في باطن رمال سيناء، أثناء الحرب الأخيرة مع العدو، هناك إلى جوار دمهما، الذي تشربت به الرمال، وصارت بقايا عظامهما منثورة، كنشارة خشب منقوعة، في غِراء مُذَابٍ بفعل اللهب. يقينه أكيد أن عربته هذه، سبب رئيس - رغم ذلك -، في تعيينه الحالي - كمصاب حرب قديم -، عاملا بمدرسة القرية، الواقع مبناها على الجانب الآخر للأسفلت، الذي لابد من عبوره أولا، كي يصل إليها. يسافر عقله بعيداً ويروح، إلى زمانٍ فائت؛ كم ناورتْ عيناه بالمعركة، مُمَرِّرَةً نظرَ إحداهما، عبر منظار مثبت أعلى مدفعه، لم تكن لديه وقتها أدنى مشكلة، في تحديد الهدف بكل دقة، بآلية معتادة يضغط الزناد، تتجندل على الفور أمام عينيه الفَرِحَتَين، آلياتُ العدو الواحدة بعد الأخرى، ترتفع ألسنة اللهب، حافرَةً في نفسه، أسبابا كبيرة للرغبة في الحياة. تمتلئ أذناه بـ (الله أكبر)، تطلقها حنجرة رفيق (طقم المدفع) الصعيدي. ... الآن ومن فوق مقعده المتحرك، يستمر عقله في اجترار ما كان... تتلاشى معظم الصور وتختفي، إلا صورة رهيبة التكوين، بألوانها الغريبة، المكونة من مخلوط الدم الأحمر الساخن، مع لون الرمال الأصفر الممتد، امتداد ساحة المعركة اللامحدود: ساقان مبتورتان، وسط سجادة رمال مدماة، ونصف ـ بل ربع ـ وعي، سرعان ما غاب، بعد أن خطف نظرةً أخيرةً على ساقيه، قبل اختفائهما إلى الأبد، داخل حفرة رملية، وبقايا دموع تجري، فوق وجنات الرفاق المكسوة بالغبار، اللاهجين بالتسبيح، والنشيج المكتوم أوالصريح. هل عليه الآن، أن يُلقي بتلك الصورة بعيدا، حيث اللاعودة؟ عجلات كرسيه المتحرك، على وشك عبور بوابة المدرسة، كيف تنحني نصف قامته الباقية، من مقعدها هذا، لتمسك إحدى اليدين بمقشة الكنس، وتدير الأخرى عجَلات الكرسي كي يتحرك، أهذا كل ما تبقى له من تاريخ؟ تتوق روح نصفه الباقي، إلى مشاركة ساقيه الخلود، هناك في بطن الرمال المدماه. آه... من فَقْدِكَ أيها المدفع! تصطدم عيناه بفناء المدرسة، على جانبيه مرميان بلا شِبَاك، وللتو أفرغ جوفه من اللاعبين الصغار، على حوافه تتناثر أشجار (فيقس) عجوز ضامرة، تكسو أوراقها طبقة سميكة، من سواد لزج وفضلات ذباب. تحاول يداه بكلُّ قواهما، أن تدفع عجلات الكرسي، كي تزداد حركته. تلتقط أذناه عَبْرَ الفناء، حروفُ اسمه هو، - هذا صوت كبير العمال -يصرخ: أين أنت يا سعد...؟ تنحرك شفتاه معلنة عن تواجده، يحاول زيادة قوة يديه، لتصبح حركة الكرسي أسرع وأسرع. ... رحلة يومية منذ سنوات، تبدأ من نقطة عند مسكنه القديم، لتتوقف عادة عند هذه النقطة من الفناء، لم يشغل عقلَه يوماً، بكيفية وصوله إلى المدرسة، أوبما يتبع الوصول، من كيفية إنتهاء حصته في الكنس والتنظيف. صوت كبير العمال لا يتوقف عن الصراخ: أين أنت يا كناس الغَبْرَة؟ لم يستطع إدراكُ الحاضرين، الوصول إلى دلالات كلمات سعد الواهنة: مدفع... عدو...اضرب... بتر...سيقان رمل...دماء.... فوق جدار الفناء من الداخل، وقعت عيناه على لوحة مرسومة، بدا وكأنه يكتشفها لأول مرة، أعلى اللوحة الكبيرة، تميل نخلتان غير مثمرتين، يلونيهما اخضرارٌ باهت، تحت ظلهما القليل، مُقيد زوجان من بقر ضامر،... وخط أسود يصنع دائرة، تملؤها صُفْرَةٌ كالحة، وسط الصُفرة ترتفع يدً معروقة، ترفع شُعلة خافتة اللهب، ومسجد أخضر، مكتوب عليه بخط أبيض (مسجد بالسلام)، أبوابه متآكلة مغلقة، ومئذنة بنصفها العلوي بقايا انهيار، وفوق مُربع مجاور من السور، يربض نصف علوي لآدمي، كتبت تحته بخط بدائي: الرياضة قرينة الصبر. وبالقرب منها عبارة طويلة، أحد أجزائها يقول: مدرستنا نظيفة. صوت كبير العمال لم يتوقف، عن الصراخ باسم سعد، متهما إياه بالتسبب في قذارة الفناء. امتنع لسان سعد عن الإتيان بأي رد، ومن بين بياض الجير الأجرب للسور، لمح وسط اللوحة المرسومة، بقايا مدفع قديم، إلى جواره ينكفيء أحد أفراد (الطقم) مبتور الساقين، و...و...ومنعت طبقة شفيفة من الدموع، استمرار عينيه في تأمل اللوحة. ----------

 

أخبار اخرى فى القسم