الثلاثاء 14 مايو 2024 - 04:00 مساءً - القاهرة

     

 

 

               

 

  أحدث الأخبار

 

 

  الأكثر قراءة

 
 
 

ما أسباب تراجع الأغنية

  ازمة صوت

  ازمة كلمة

  ازمة لحن

  غياب دور الدولة في تبني أصوات جادة


نتائج

 

 
 

الرئيسية ابداع الناقدة د.زينب العسال تكتب ..القصة القصيرة جداً بين الفن والانزياح(2)

 

 
 

الناقدة د.زينب العسال تكتب ..القصة القصيرة جداً بين الفن والانزياح(2)

  السبت 23 نوفمبر 2019 01:59 مساءً   




يري البعض أن القصة القصيرة جداً وجدت ميلادها على يدى جبران خليل جبران، بينما يذهب آخرون إلى أن أرنست همنجواي أول من أطلق مصطلح القصة القصيرة جداً علي احدي  قصصه عام 1925 ,وكانت قصته تتألف من ست كلمات فقط " للبيع حذاء لطفل, لم يلبس قط".

ولعل الانطلاقة الأولى للقصة القصيرة جداً فى الوطن العربى، بدأت مع ظهور كتاب ناتالى ساروت" انفعالات"، والفضل يرجع إلى المترجم فتحى العشرى حين ترجم الكتاب إلى العربية فى سبعينيات القرن الماضى.

القصة القصيرة جداً جنس أدبى لا يمكن أن تميز عن غيره من الأجناس الأدبية الأخرى إلا بقلة الكلمات، وهى سمة فارقة بينه وبين الجنس الأم ( القصة القصيرة )، لكن هذه السمة لا يمكن اعتبارها فارقة إلا إذا تحققت فنيته عبر تكثيف اللغة، ومن ثم قدرتها على الإيحاء الدلالى لمعانى الكلمات، ولكى يحدث هذا بشكل عفوى، فإن على الكاتب أن يضمر الدلالة الواضحة " الفن إضمار "، لتتحول إلى دلالة رامزة، والتكثيف سمة مهمة فى دلالتها، لأنها تؤدى إلى فن جديد يتدثر بالتصوير البلاغى، فيخرج من الفن العادى إلى فن تصوير بلاغى، يتجاوز السرد المباشر، إلى ما هو مجازى" ضمن بلاغة الانزياح والخرق الجمالى (12)

لا يمكن فصل ـ أو فطام ـ القصة القصيرة جداً عن أمها، إن جاز هذا التعبير. هى ابنة شرعية للقصة القصيرة ، لكنها تختلف عنها فى المسمى " قصيرة جداً". هذا القصر فرض على كاتبها مراعاة التكثيف الشديد، فهى قصة فلاشية، مما يجعلها مكتنزة بالتوتر الشديد، الذى يلزم القاص بحذف كل ما لا يخدم القصة، فلا وصف مستفيضاً، ولا شخصيات كثيرة، أو أحداث متشابكة. إن فكرة الإدهاش، أو ما يمكن أن يوصف بأنه الإبهار الخاطف كضوء البرق يأخذ بالأبصار. كما تعمل القصة القصيرة جداً ـ بقدرة فائقة ـ على استثارة التخييل، لتبقى أهم سمات القصة القصيرة جداً، اكتناز المعانى عبر الترميز، والمفارقة، والتنوع الأسلوبى إن لزم الأمر.

لقد أطلق على القصة القصيرة جداً أسماء مثل القصة الومضة، القصة الفلاشية، القصة اللقطة، القصة التلغرافية، الأقصوصة، القصة اللوحة، لكننى لا أميل إلى هذه التسمية الأخيرة، لأنها تفقد أهم خصائص القصة القصيرة جداً، وهو الاقتصاد، أو التكثيف.

ظل إبداع نجيب محفوظ مرتبطاً بحركة التغيير فيما يجرى فى مصر، ومتجذراً فى أعماق التربة المصرية. ولعله يمكن وصف أدب محفوظ بأنه التعبير عن تاريخ مصر المعاصرة.

جاءت" أحلام فترة النقاهة" مختومة بطابعى العبث والحيرة: مؤسسات مستغلقة، دفعات صغيرة تتحكم بقوانينها فى الشوارع ودواوين الوزارات، تقلبات الأجواء، البيروقراطية، الكافكاوية، الأصدقاء الراحلين، التهديدات الكاذبة، أطلال البيوت المهدمة..

أحلام فترة النقاهة نص طويل ليس مجانيا، لكن الأحلام تصاحبه فى جولاته ورحلاته، تصير جزءاً لا يتجزأ، يعلن القص عن ذات الكاتب حيناً، أو يستغلق أمام التحليل حيناً آخر، لكنه عموماً يقدم القص القصير جداً عند نجيب محفوظ، تعبيراً عن الذات فى بحثها الدائم نحو التحرر.

لعل نجيب محفوظ أجاب فى هذا العمل على مقولة" زمن الرواية"، ثمة عشرات الأحلام/ القصص القصيرة جداً، رغم أنه قد تم نعى القصة القصيرة فى العديد من المقالات.

قصص" أحلام فترة النقاهة" عصارة تجربة حياتية وفنية، مترعة بعطرها الفواح. بين الرواية ببنائها الكاتدرائى الفخم إلى قصص قصيرة جداً، قدم محفوظ تجارب سابقة، بورتريهات لشخصيات حقيقية، غلفت بالفناتنازى أو الأسطورى أو الصوفى.

محفوظ يدرك تماماً ما سوف يعانيه الإنسان المصرى المعاصر فى قادم الأيام ـ والتعبير لنجيب محفوظ ـ فهو يدرك أن سرعة" النانو " التى صارت سمة لهذا العالم، ومن ثم جاءت الأحلام مقتضبة، حيث تختصر العمر فى جملة، والعصر فى سطر، والسنة فى كلمة. إنه يقدم لنا خلاصة رحلته الأبدية، محملة بأريج عبق، متصل، يظل فى الوجدان ( نقلاً عن أخبار الأدب) 

يعد زكريا تامر فى مقدمة كتاب القصة القصيرة جداً فى الوطن العربى، وقد كتب العديد من القصص القصيرة فى أثناء احترافه الحدادة، التى ظل يمارسها حتى بعد أن  بشرت مجموعته القصصية الأولى بكاتب موهوب. وعموماً فإن كتابات زكريا تامر تهز المسلمات التى يعتنقها المتلقى، ومن ثم يظل المتلقى مشاركاً فى إدراك المغزى الدلالى.

السخرية والتهكم من الثوابت المهمة فى إبداع زكريا تامر، ومع هذا فإن الرمز عند تامر واضح الدلالة لمن يجيد فك شفرة النص.

زكريا تامر مولع بعرض مواقف وأحداث جرت فى الماضى، واستلهامه لهذا الماضى يعيدها لسيرتها الأولى، ويوارب الباب أمام كل من يجد فى نفسه القدرة على فك شفرات النص ورموزه. وهوـ مثل الكثير من كتاب القصة القصيرة جداً ـ يستخدم المفارقة فى التأكيد على المعنى المراد التبئير عليه.

والقصة القصيرة عند زكريا تامر تلامس التراث العربى بشدة. وإذا كان أ. م . فورستر يجد أن فن القص ـ بمفهومه العصرى ـ بدأ مع حكايات شهرزاد، فلعل معنى هذا القول أنه يرجع فن القص إلى إرهاصات معظمها ينتسب إلى الثقافة العربية، وإلى الإبداع العربى، وإن كان البعض يخالف ذلك الرأى، لأنه يقصر البداية على زمان قريب نسبياً، وأن فن القص يبدأ مع السير والملاحم والحكايات القديمة والطرف والنوادر والمقال وغيرها من الأشكال التراثية.

الفنان لا يكتفى باستلهام تلك الأشكال، لكنه يستحضر الشخصيات التراثية التى تمثل للمتلقى العربى حمولات دلالية متوارثة. أشير إلى : نبوءة كافور الإخشيدى، شهريار وشهرزاد، يحكى عن العباس بن فرناس، عبد الله بن المقفع الثالث، عنترة النفطى، خالد بن الوليد، بالإضافة إلى تقنية الحلم / الكابوس، الحلم يكشف عما يمور فى النفس من شعور بالذنب، فيتحقق التطهير بالحلم. فى قصة " الجوع " يستلهم زكريا تامر المثل الشعبى " الجوع كافر " : يحلم أحمد الجامع بأنه ملك متوج، وأن يأكل أطيب أنواع الطعام، لكن جوعه لا تسده تلك التخيلات، أو ما يرسمه الفنان من وليمة فاخرة. وتحمل القصة القصيرة جداً فى بنيتها التمرد على الواقع المتردى، تذكرنا قصة " الصامتون" بكلمات أحمد شوقى " كلنا فى الهم شرق ". فزهير صبرى يعلم تماماً أنه لم يكن الوحيد الذى يُصْفَع، رغم تعدد المواقف التى واجه فيها الصفعات، وتوقع المتلقى رد الفعل. القص هنا يقترب من الكابوس الجاثم على الجميع، وما زهير صبرى إلا واحد من هؤلاء الذين لا يتحركون دفاعاً عن أنفسهم، وعن حريتهم، فهم لا يواجهون بطش السلطة الغاشمة. الفنان يصور ما يشبه القدر الاجتماعى والسياسى الغاشم الذى يصفع فيه المرء، ولا يجرؤ على أن يجأر مستنكراً، أو ثائراً على هذا الواقع.

وعلى المتلقى لقصص زكريا تامر أن يعيد التفكير فى المغزى الذى تهبه القصة. المثل نجده فى قصة " انتظار امرأة "،يولد الطفل بغير رأس، فبكت أمه، وشهق الطبيب مذعوراً، التصق أبوه بالحائط خجلاً، وتشتت الممرضات. لم يمت فارس كما توقع الأطباء، وربما كما تمنى الأبوين، وعاش حياة طويلة لا يرى ولا يسمع ولا يتكلم.

فى قصة " انتظار امرأة " يدين الكاتب العالم المبنى على التشوه القيمى والجمالى والوجودى الذى يحياه الإنسان. المعنى الذى يمكن أن نستخلصه أن المستقبل لن يكون أفضل من الحاضر المعاش، فالمقدمات تنبئ بالنتائج. الأمل يغيب عن القصة، مع التأكيد على أن الإبداع لا يبشر بالأمل قدر ما ينبه إلى مكامن الخطر.

والقصة القصيرة جداً عند زكريا تامر قادرة على تبنى الأسئلة، والتحريض على إعادة العلاقة بين الإنسان والموجودات. إن اعتناق الفنان للحرية المطلقة فى الفكر والرؤى يجعله لا يهتم بمدى تقبل السلطة السياسية أو الحزبية لما يكتب، ولعل اختياره للعيش فى بلد أوروبى ساعده على ذلك.

 

أخبار اخرى فى القسم