الثلاثاء 16 أبريل 2024 - 06:50 صباحاً - القاهرة

     

 

 

               

 

  أحدث الأخبار

 

 

  الأكثر قراءة

 
 
 

ما أسباب تراجع الأغنية

  ازمة صوت

  ازمة كلمة

  ازمة لحن

  غياب دور الدولة في تبني أصوات جادة


نتائج

 

 
 

الرئيسية ابداع أولاد شـــــوارع... أولاد..قصة طنطاوي عبد الحميد

 

 
 

أولاد شـــــوارع... أولاد..قصة طنطاوي عبد الحميد

  الجمعة 13 نوفمبر 2020 11:49 مساءً   




جلس محزونا ، ألقى بجسده فوق أحد المقاعد بقاعة الاستقبال وسط أحزانه تدور عيناه في أرجاء المكان ، تستطلع حتى الجدران والنوافذ والأرضيات ،ينظر للممرضات الغاديات والرائحات يتأمل رواد المكان ويشعر بأنهم من طينة أخرى ، تحركت أمامه ، ألهبت مشاعره بجسدها الغض وساقيها الملفوفتين ، تمنى أن يتحدث إليها ، مجرد حديث ، ألقى برأسه للخلف ، هجمت عليه الأفكار والأماني المكبلة ، عنف نفسه وفكره الذي ذهب ، تذكر أبيه الذي يرقد في حجرة العناية المركزة منذ ثلاثة أيام ، اقتربت منه الممرضة التي هام بها لتوه ، وقفت أمامه بلباسها الأبيض الملائكي القصير ، مالت عليه وبلغة عربية ركيكة ، همست في أذنه أن أباه قد فارق الحياة ، هم أن يصرخ ، وضعت يدها على فمه ، بين أحزانه وشفاهه المذمومة قسرا قبل راحة يدها ، سحبت يدها ونظرت إليه بحدة ، أطرق إلي الأرض ، اهتز جسده بقوة ، انهمرت الدموع من عينيه ، ربتت علي كتفه ، نظر إليها من جديد ، أشارت عليه أن يأتي خلفها ، في حجرة وثيرة ، طالبوه بالجلوس ، استقدموا له كوبا من عصير الليمون المثلج ، نظر إليها ، شجعته وطلبت منه أن يشرب ، سحب رشفة خفيفة ، امتزج العصير بمرارة حلقه ، شعر بسريان الخليط في أمعائه ، ارتجت معدته بشدة ، طالبوه بمواصلة الشرب ، أعلنوا عن المبلغ المفروض أن يدفعه حتى يتم الخروج بالجثة من المستشفي الاستثماري ، لم يدر بنفسه ، ماتت الكلمات في حلقه بعد صمت تحدث ، قص عليهم بمرارة ، السيارة صدمته وهو بجوار المستشفى، هربت ، والمرور في تلك الساعة صعبا للغاية ، حتى تصل سيارة الإسعاف قد يفارق الحياة ، تجمع البشر حوله وصرخوا بأن الرجل سيلاقى حتفه ، ساعدوه وحملوه فوق أعناقهم وأدخلوه للمستشفى ، قصوا عليه كم تكلف علاجه لثلاثة أيام متتالية ، كمية الدماء التي أخذها ...الأطباء وأجورهم ، مبالغ يسمع عنها في المسلسلات التليفزيونية فحسب ، ماذا يفعل ؟ أقسم لهم أنه لايملك أي مال ، إنهما لا يملكان من الدنيا شيئا ، مسكنهما عبارة عن حجرة وحيدة ، يسعيان للعمل يوميا ، ليس لهما مصدر رزق ثابت ، حجرتهما في شقة من أربع حجرات ، كل أسرة في حجرة ، دورة مياه واحدة ، منطقة عشوائية لايسمعون عنها ، وقليل من الأثاث ، قص عليهم باستفاضة، خرجوا ، بقى هو وصاحب المقام الرفيع ، اهتز بكرسيه يمينا وشمالا ، أشعل سيجارة ، طالبه بحل لهذه القضية عليه أن يسرع أولا بإحضار المبلغ الذي اتفق عليه ، خفض من المبلغ خمسة آلاف جنيه ، يتمنى أن يضحك ، ود أن ينفجر فيه ، هل يسأله كم ثمن كأس عصير الليمون ، كل أمنياته أن يدفن الجثة ، كيف ؟! ، أطفأ سيجارته وثبت في كرسيه ، نظر للفتى وطالبه ببطاقته الشخصية ، لم يستخرجها بعد ، نظر إليه من جديد ، انقلب حال صاحب المقام الرفيع وتغيرت سحنته وأصبح أقرب لشيخ وقور ، راح يتحدث بالدين وفي الدين ، كان يواسيه ثم لا يلبث ويلقى باللائمة عليه ، يتجرد من أحاديثه السالفة ويرتدي معطف التقوى ، لم ينل الفتي أي قسطا من التعليم ، تعلم كتابة اسمه بالكاد، فلا يمتلك من الأحاديث أو المعارف ما يرد به عليه ، استشعر إنه أمام إمام وعالم كبير له باع في الدعوة ، اهتزت رأسه فحسب ، وافقه على حديثه ، فهذا لا يعلم من القرآن سوى النذر اليسير ، واصل صاحب المقام الرفيع الحديث ، يستمع ودموعه تواكب أحاديث الرجل ، تحدث عن الشاة التي لا يضيرها سلخها بعد ذبحها ، أخذ يقص عليه حكاية سيدنا عبد الله بن الزبير رضي الله عنه عندما حاصروه ، وكلمة أمه السيدة أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما ، تهتز رأسه وتخرج آهات متتالية مكتومة من صدره ، أخيرا وبعد عناء استطاع أن يفهم ما يرمى إليه الرجل من أقاصيصه ، يستطيع أن يكسب بضع آلاف من الجنيهات ولايسأل عن الجثة ، ذهبت دموعه وتوقف نبض قلبه لثوان ، ومضت عيناه بوميض غريب وركز بصره على الرجل ، استقام من جلسته ووقف منتصبا ووقف الرجل بدوره ، يطالبه بالهدوء والتريث والتفكير بجدية وإعمال العقل ، أدرك أن حديث الرجل يقول أن كلب علي قيد الحياة خير من أسد ميت ، استفاض الرجل في شرحه ، نبرات صوته ترتفع تارة وتهبط أخري وحديث يعاد، هو صامت كتمثال ، لم يتفوه بكلمة واحدة أسرع بالخروج ، يمضى بلا هدف ، وطريق بلا عنوان ------------------ الساعة تقترب من الثانية صباحا ، الهدوء يعم المكان ، الرائحة المعتادة لروث البهائم والحمير التي وقفت أو نامت أمام البيوت ، كلاب اعتادت عليه ، فلم تزكم أنفه الرائحة ولم تنبح الكلاب ، دخل من الباب الرئيسي ، لا يسمع سوى شخير الريس بهنسي سائق العربة الكارو وحجرته تجاور حجرتهما ، تسلل في هدوء لدورة المياه وخلع ملابسه وفتح المياه فوق رأسه ، لم يدر كم من الوقت مضى ، خرج في حذر وهدوء ، صوت ينساب في لحظة عشق من الحجرة المجاورة لدورة المياه ، ترتفع الآهات النشوى ، منذ سنين كان يهيم بتلك الأحداث ، كان يسترق السمع ، أسرع لحجرته لمسكنه، ما كاد يغلق الباب ، طرقات خفيفة بدقات متعارف عليها فتح الباب بعد تردد لم يطل مداه ، فهو يعلم أنها لن تمضى ، إنها متأكدة من وجوده ، مجرد أن انفرج الباب ولجت بسرعة للداخل وأغلقت الباب خلفها ، كانت تقاربه سنا ، منذ وطأت قدماه هذا المكان وهى رفيقته ، هربا سويا ، سرقا معا ، حتى لحظات العشق الحقيقي تفجرت بينهما في آن واحد ، وهما يجلسان أمام التلفاز في ساعات السهرة ، يتبادلان النظرات ، يحاولان أن يقلدا ما يشاهدانه في طفولية لم تصل لهزة العشق وبلا معان حقيقية، حتى آتتهما الرعشة الممزوجة باللذة فعاشاها ، لم يك هناك ما يردعهما ، صارا علي نفس الدرب فأبيه الذي تبناه وأمها يعيشان على هذه الوتيرة دائما ، وهو صغير كان يبيت ليلته دائما معهم هي وأختها وأمهما ، كثيرا ما شاهد أمها وهى تتسلل لحجرته ، لم يهتما بالأمر كثيرا وكانا يتضاحكان ، وبدورهما تركا لهما الحبل على الغارب ، فالمرأة تدعى أنها هاربة من أهلها مع زوجها الذى مات مبكرا وترك طفلتيه ولم تتعد الكبرى ثلاث سنوات ، وهو يعلم أن الرجل كان وحيدا ، ويوما وجده نائما فوق السور الموازى للنيل ، وانقلب وهو نائم وكاد يغرق وانقذه الرجل واتخذه كأبن له ، وعاشا معا ، ولم يعرف له أب أو أم أتت إليه وفي عينيها دعوة للقاء ، وفى عينيه دموع وفى حلقه غصة، رغم الضوء الخافت سمعت أنينه وآهاته ، سألته ـ أجابها ، ضربت فوق صدرها ، كتما صرخاتهما تعانقا وهما يبكيان ، امتزجت دموعهما ، اقتربت شفاهما ، مزيج من البكاء والدموع والرعشة والرعب والخوف ، اهتزا ، انتشيا ، عادا يمارسان البكاء أو العشق، تلاحقت الأنفاس ، اضطربت العواطف ، تداخلت الرؤا والأشياء ، اشتبكت الأنامل بقوة ، وبصيص من خوف وهروب من واقع، تحدث إليها وما كان من أمر صاحب المقام الرفيع ، أخذ يسب ويلعن ويصفه لها بأقذع الصفات ، يقص عليها عن المستشفى وما بها وكيف تخطف حتى جدرانها وأرضيتها بالأبصار ، تستمع إليه وتعاودها نوبة بكاء، ومجرد أن تسمع عن المبلغ المطلوب ، تبتعد ، تكاد تصرخ، تعود وتشاركه الحديث ، كيف يستطيعان جمع المبلغ ؟ هل يسرقان ؟ اعتادا السرقة ولكن سرقاتهما لاتتعد عمليات الخطف وأكبرها قيمته لاتزيد عن المئة جنيه ، وفى حال بيعها يأخذا ما يوازى ربع ثمنها فحسب ، لم يشتد عودهما بعد في مجال السرقة ، مازالا في طور الصبا والطفولة بكى بحسرة بالغة ، أخذت تربت على ظهره وتشاركه البكاء ، تحكى عن مآثر المرحوم هو يستطرد فى الحديث عن الرجل وكيف آواه وكيف عاش معه ، لايعرف له أبا أو أما سواه ، هو أيضا كان محروما من الأهل ، ولم يفكر يوما فى الزواج، كانت حياته موزعة بين البحث عن الرزق بصورة أو بأخرى، حلال أم حرام لم يفرق يوما بينهما أما المخدرات فكانت عادة يومية يمارسها طوال حياته ، ثلاثة عشر عاما منذ احتضنه، تبادلا القص والذكريات الجميلة والمريرة ، تصف حبها له كأبيها وحنوه الدائم عليها صمت مريب ، بريق العيون رغم الضوء الخافت واضحا ، وفكرة نشبت أظافرها في عقل الفتاة التي لم تتجاوز السادسة عشرة ، سألته عن صاحب المقام الرفيع كم سيدفع ؟ نهرها ، دفعها وصفعها علي وجهها ، لم تأبه ، جابهته وما لبثت أن أمسكت يده وقبلت أنامله ، ألقى بجسده فوق الفراش ، اقتربت منه أكثر ، تربعت فوق صدره طالبته أن يعيد الفكر وماذا يفعلان ؟ وماذا يملكان ؟ لقد مات. إن وزعت أجزائه ماذا سيضيره ؟ سيموت ، من ماتوا في الحرب، من غرقوا وأكلتهم الأسماك ، مع اشراقة الصباح ، انطلقا وصمما أن يكون سرا بينهما لا يعلمه سواهما ، ليطالبا بمبلغ أكبر ، لن يوافقا بسهولة ، يجب أن ترتفع القيمة

 

أخبار اخرى فى القسم