الجمعة 17 مايو 2024 - 09:50 صباحاً - القاهرة

     

 

 

               

 

  أحدث الأخبار

 

 

  الأكثر قراءة

 
 
 

ما أسباب تراجع الأغنية

  ازمة صوت

  ازمة كلمة

  ازمة لحن

  غياب دور الدولة في تبني أصوات جادة


نتائج

 

 
 

الرئيسية تقارير نرمين عيد تكتب : دلالات تلاعب الصوت

 

 
 

نرمين عيد تكتب : دلالات تلاعب الصوت

  الأحد 17 مارس 2019 01:01 مساءً   




يطلق الناقد "ريجيس دوبرية" على العصر الحالى عصر الشاشات فيديو سفير Video Sephereعالم الرؤية المتحدث بالأمريكية والمتجها للبصري (الرقمي)، وتنبع فاعليته من الصورة كإدراك ومن ثم فهى علاقة افتراضية، فعندما تم استبدال الرسوم والمنحوتات بالأشياء الجاهزة Ready madeكرد فعل للتصوير الفوتوغرافى فكان إدخال الواقع الفج استجابة للواقعية التى تقدمها الصورة الفوتوغرافية ومؤثراً لبداية فنية جديدة، وبعد إصدار أول كاميرا فيديو سنة 1965 اتجه الفنانون لاستكشاف واستثمار إمكانيات تلك الآلة في الإعادة والعرض والحفظ فقدمت امكانيات لا نهائية في إعادة التنظيم ووضع السياقات وتشكيل الصور كما سمحت بقراءة رمزية ولكنها بمرور الوقت أفصحت عن تناقضها الإنتاجى فالنصوص المستخدمة للفيديو كتعبير إبداعى حر يناهض الوظيفة السابقة الأساسية للفيديو كوسيلة لإعادة الإنتاج، بينما فتحت ديمقراطية الكمبيوتر إمكانية عرض كل أنواع الصور وإعادة التأويل، (ففى داخل فضاءة الافتراض يمكن للصور أن تحقق مالا يمكن لأي ممثل أن يحققه أو ما كان تحقيقه مجرد حلم بالإمكان إذابة الجسد إذابة كاملة، أو إعادة بنائه بالكامل، إبتداء من إذابة الجسد حتى يصبح بلا أي غطاء وانتهاء بالوعود التى يتمناها).

ونجد في عرض الفنانة جوديت بارى   ([1]) Judith Barry's، تعطيل الصوت voice off(شكل 1,2) هذا المزج بين فنون الفيديو و التشكيل في الفراغ video Installation)الذي يعيد تقديم الواقع عبر دلالات بصرية سمعية  , يُقدم العرض في حجرة مقسمة إلى قسمين متشابهين ويملأ عرض الحجرة شاشات للعرض في كلا القسمين وتعرض الشاشات تجربتين مختلفتين مكتملتين في نفس الوقت، ويلزم المتلقى أن ينتقل بين الحجرتين ليكتمل العرض، في أحد الجانبين يقدم مشهداا لرجل في حجرته حيث يمضى الوقت ببطء مثيراً للملل والضيق وينفق وقته ويستهلكه في التدخين، شرب القهوة، قرأة جريدة، التجوال في الحجرة ، التحدث في التليفون، الاستماع للموسيقى، وفجأة يسمع أصوات وهمهمات وأغانى عالية لامرأة، صوت أوبرالى جميل ولكنها غير معلومة المصدر – يحاول تتبع آثر الصوت، يفتح باب الحجرة أكثر من مرة بحثا عن الصوت، يتخيل أنه صادر من خلف المكتبة – يفك المكتبة ويبعثر الكتب دون جدوى، يحضر جهاز مسجل لكى يسجل الأصوات كدليل على وجودها إلى أن يجد في نهاية الأمر عصا جولف يفتح بها ثغرة في الحائط لينفذ منها إلى ما وراء الحائط – عند هذه النقطة بالمونتاج تتداخل الشاشتان فيدخل الرجل فى الشاشة المقابلة في لحظة من الضباب والصمت فلا يجد شيئاً فيستسلم وبعد فترة يعود إدراجه.أما الجانب الآخر فتمثله شخصية امرأة تقوم بتمثيلها امرأتان مختلفتان وتمتلأ الشاشة بالضباب الحلمى الذي تختفى فيه الشخصيات وتظهر مع الموسيقى، العرض هنا ملئ بالصوت والأحلام والشخصيات، كلام، مونولوجات، مقتطفات من أغانى معروفة، علاقات حميمة، قصص كثيرة، فى العرض في تساؤله عن معنى الصوت يطرح عدة تساؤلات ماذا يفعل الصوت بنا؟ ما يثيره السمعى فينا  من أفكار، مشاعر، تخيلات – مدى استجابتنا لعالم الصوت الذي يستدعى البصرى عبر التخيل – وقد يثير الاختلافات النوعية بين عالم الرجال عالم النساء، وتقول الفنانة أن العرض يبحث في خصوصية الصوت داخل الجسم، كيف يتملكنا الصوت، وبقدرتنا على أن نصبح ما نستمع إليه – أن نصبح مختلفين بسببه. في الحقيقة هناك مسارات للصوت.

صوت بداخلنا – لاوعينا – مشاعرنا الدقيقة ويمثل مساراً صوتياً يتحكم فينا ويحركنا، يدفعنا، يشغل حيز وجودنا الخارجى عبر الدفع الداخلى، وأصوات المسارات الخارجية من ما يصل إلينا عبر السمعى فيثير فينا المكبوت والغير معلن ويستحث فضولنا، يدفعنا للتجسس والتصنت، وقد يمتزج الاثنان أصوات المسارات الداخلية والخارجية ، المكبوت والمعلن، وتلاقى الاثنان معاً قد يذهب بنا إلى همسات الجنون أو يوقعنا في أحبولة أحلام اليقظة اللانهائية تعويضاً عن المفتقد والغائب، حضوراً وهمياً لصدى الصوت الداخلى مترجم عبر مسارات البصرى الضبابية.

وفى قصة مسحوق الهمس "يوسف إدريس" ([2]) يلعب الصوت الركيزة الأساسية للقصة التى تتوازى مع عرض تعطيل الصوت "لجوديت" رغم الاختلاف – ففى القصة نجد عالمين، عالم الرجال حيث يمثله مسجون وعالم نساء غائب – حاضر فى خيال السجين وما بين العالمين يقع الصوت الذي يمتلك النصين، سجين إدريس يقبع في زنزانته حيث تفقده الوحدة تميز عالم الرجولة والأنوثة، ومنذ سماعه (عن قصة مجرم احتل الزنزانة واستطاع أن يثقب الجدار ويصنع ثغرة لينفذ إلى الجانب الآخر حيث النساء) فاحتلت تلك القصة السمعية مجامع السجين، حركت فيه المكبوت والدفين، فبدأ في دق الحائط أملاً في التواصل مع الآخر إلا أن سمع أصوات خافتة بعيدة مبهمة أفقدته القدرة على الحياة، ولم يعد يشعر بالحياة إلا من خلال الهمهمات التى أعادت له الآخر المفتقد عبر السمعى، وبالاستسلام للمعادل البصرى المتخيل خاض سجين إدريس عالم الأحلام، تخيل الحبيبة – بادلها الحب – كون لها صورة وبالتصنت والتجسس عاش ينتظر الأمل في اللقاء.

أما رجل جوديت نجد في مشهده توازى بين غياب الصوت، الصمت – والانعزال الاجتماعى وغياب الآخر –وعندما يخدش الصوت جدار الصمت يصل بالرجل إلى حالة من القلق والتهيج النفسى ، أنه لايستسلم للصوت لايدخل عبر مسارات الداخل، لايجد أثر في الدفين المكبوت إلا فكرة الانقضاض وامتلاك الصوت، فسجين "إدريس" لم يجد أمامه إلا (الجردل المعدنى) ليؤكد الصوت، ليعلن عن جيشان صوته الداخلى ليتواصل مع الآخر بنبرة أعلى، في حين نجد رجل جوديت  يشغل المسجل ليسجل الأصوات (ليتملكها) كدليل على وجودها المادى الفعلي، إن ما يشغله هو حيز التملك وليس المتخيل.

إن هذا الاختلاف بين العالمين لايعبر عنه فقط الاختلاف التكنولوجى بين الجردل المعدنى وجهاز المسجل ولكنه يطرح رؤية خلافية بين عالمين، عالم شرقى يستسلم للأحلام الوهمية، يقظة استعاضية، ينفق العمر في الانتظار والتخيل، وعالم غربى ذو رؤية مادية بحتة ولايبحث إلا على التملك، ذكورية مادية في حين يمتلك "سجين إدريس" ذكورية حسية، وبالرغم من المفارقة تتشابك النهايات، فعندما استطاع رجل جوديت اختراق الحائط والعبور إلى المنطقة الأخرى ، لم يجد شيئاً غير الصمت فلقد رحلت النساء إلى عالم الضباب فلم يجد إلا الاستسلام والعودة لإدراجه مرة أخرى، وواجه سجين إدريس نفس المصير عندما اكتشف عدم وجود حبيبته خلف الجدار، فلقد رحلت النساء من العنبر، أو ربما لم يكن موجودات منذ البداية ولكنه مع ذلك ظل قابعاً تحت سيطرة الصوت الذي تملكه إلى درجة لم تصل إليها أى إمرأة عرفها فعلياً.

وتقع منطقة التشابك بين النصين فى (نص يوسف إدريس وعالم الرجال - نص جوديت وعالم النساء) فكليهما يمتلك عالم الصوت، وفى القدرة على تحويل السمعى إلى عالم بصرى ملئ بالخصوبة،  ففى عالم النساء نجد امتلاك القدرة على تحويل المجرد وإظهار للمشاعر المكبوتة والسماح بالدفين للخروج والسباحة في عوالم ضبابية بأحلام اليقظة الملئ بالقصص والأحاكى والليالى والمشاعر ويتوازى سجين إدريس مع عالم النساء لجوديت. فالصوت عند كليهما يمثل الحرية ، التخيل، حضور الآخر، امتلاك للبصرى، بينما  يمثل رجل جوديت غياب للآخر- الصمت، مصدر للقلق وللفقد والضياع وعدم السيطرة، ضياع أسفل رغبات التملك – ذلك التملك الذي حجب رؤية الحياة ذاتها.

إن مقاربات نص "يوسف إدريس" بعرض "جوديت" يجعلنا نعيد رؤيتنا ويفتح أفاق الرؤية للاختلافات لنستكشف مناطق جديدة تتجاوز السمعى وتقترب للتساؤل عن مناطق الذكورة والأنوثة، الشرقى والغربى، حوار للحضارات والثقافات، يجعلنا نطرح تساؤلاً عن ماذا تريد النساء؟ هل هو إمتلاك نبض الحياة؟ أن تعيش الحياة ذاتها – نمارسها حتى على مستوى الحلم، وهل يقترب عالم الشرق رغم فحولته الذكورية الظاهرة إلى عالم الحسى ؟ هل يتشابك عالم النساء الحسى بعالم الشرق الحسى وما مدى التقاربات؟

لذا فإعادة قراءة النصين معاً، لايفتح الاثنين فقط على تعددية التلقى، بل على استكشاف مناطق أكثر عمقاً، ويتوغل في مناطق متشابكة مع كافة الأطر السياسية والاجتماعية والنوعية والتباينات الثقافية.

 

 

 

أخبار اخرى فى القسم