السبت 20 أبريل 2024 - 05:52 مساءً - القاهرة

     

 

 

               

 

  أحدث الأخبار

 

 

  الأكثر قراءة

 
 
 

ما أسباب تراجع الأغنية

  ازمة صوت

  ازمة كلمة

  ازمة لحن

  غياب دور الدولة في تبني أصوات جادة


نتائج

 

 
 

الرئيسية ابداع "اعتراف" قصة : براءة الايوبي.. لبنان

 

 
 

"اعتراف" قصة : براءة الايوبي.. لبنان

  الاثنين 22 مارس 2021 11:55 مساءً   




لا يستطيع أحد أن يسبر عمقَ تفكيرها... أن يفهم سكونها، ويتناغم مع ارتداداتها..

غامضة..

في كلّ مرّة تطالعني فيها ملامحُها غربيّةُ الانتماء، أحتار في انتقاء مشاعري.!

هل أغدق عليها ابتساماتٍ وبهاءَ طلعَة..! أم يبدو من الأمثل أن أتلافى تصادماً بين نظراتنا، وأحتسي هدأتَها قهوةً مرّة المذاق..!

شابّةٌ ناضجة الروح، مشرقة، بنكهة الحبَق المعتّق.

إن خطرَت، ترقرقَ الخفقُ من أناقةٍ ورقّة... وتسربلَت الذات نحو الحلم.

تشعر بتقاسيمها ظبيةً شاردةً من أسطورةٍ وتنهيدة.

حزينةٌ بعض الشيء، لكن وهجاً كزهر الليمون يعبق بين منحنيات وجنتَيها..

نزيلةٌ حديثةُ العهد بشارعنا، وعمارتنا الممتدة بين ضفّتَين.. تبدأ الأولى عند طفولتي وتنتهي مع بلوغي عمر الكهولة..!

ولأكون أكثر دقّة، ملامستي مرحلة الشيخوخة.ٌ

أنا شاعر، بتقييم أصدقائي، وكل من عرفني  في الحيّ وخارجه.

في سبيل الشعر، خسرتُ حياةً وبهجةً واستقراراً..

تعبي يتجاوز عمري بعقود.. من يراني، يعبُره إحساسُ شفقةٍ و شيءٌ من اشمئزاز.

ربّما جارتي الجديدة، وقعت كَسِواها في فَخّ الامتعاض من رؤيتي، لذلك عندما تصادفني بغتة، يعتريها ارتباكٌ مريب وتُفضّل مناظرة الاسفلت  على اسوداده... والمُضيّ سريعاً في غير وجهة محدّدة.

رغم أنها تقطن وحيدة، منذ أن جاورَتني، إلّا أن شابّاً يقاربها في السنّ يأتي لزيارتها على حين غروب...

من نافذتي، لطالما لمحتُ ظلالَهما في حالة غضبٍ واستنفار.. وعادةً ما ينتهي الشجار ببكاءٍ ونحيبٍ أنثويّ...

بعد خلافهما الأخير، تلاشت أطياف الشاب، ولم أعد أتعثّر بحضوره... ورغم ذلك، استمر أنين الفتاة يتصاعد من الشقّة، بين انتظارٍ وآخر.

في أكثر من مرّة، تساءلتُ عن علاقتهما..

أتُراه زوجها، وهما في حال خلافٍ قد ينتهي بالانفصال..!

ألهذا السبب، غادرت منزلها وأتت لتُضفي على عالمي غموضاً أكثر من ذاك الذي يتآكلُني منذ عقود..!

يا لهذا الغبيّ.. أيُعقلُ أن يدَعَ صفاءً وألَقاً كهذا يتسربل من قبضته..!

لو كنتُ مكانَه، لتوّجتها مليكةً على عرش النبض والروح..

ولكن..! أعتقد من الأجدى أن أكون أكثر واقعيّة...

في الحقيقة، كانت لي زوجةٌ تضاهي الأنوثةَ جمالاً ورِقّة.. عرفتُها أثناء دراستي في مدينة الضباب..

أحببتُها كما لم يعشق أحد قبلاً...

طاردتُها طوال سنوات الدراسة، وكتبتُ فيها ديوان شعر وغزل.. دون أن تُلقي إليّ بالاً.

وبعد التخرّج، صارَحتُها وفاجأتني بقبولٍ سريع..

حياتي معها لم تكن على قدر توقعاتي، فشجارنا كان أكثر من قُربنا...لدرجة جعلتني أتمنى زواجاً آخر بفتاةٍ عربيّة تماثلني في أسلوب الحياة..

ولكن..! مهلاً، ربّما تبدو الصراحة أفضلَ عند محاسبة الذات..

هي لم تكن سيّئة، بل على العكس، لطالما تجلّدَت على طباعي القاسية وإهمالي لعائلتي الصغيرة.. فقد أنجبَت لي فتاة وولداً يشابهان النورَ في بهائهما..

لا أذكر أنّي عاملتهما كأبٍّ مثاليّ.. ولا كنتُ الزوج الصالح...

وتحت عنوان "الشعر"، غادرتُ عملي وتفرّغتُ للكتابة التي لم تجلب لأسرتي رزقاً... ورغم ذلك ظللتُ  في حالة مطاردةٍ لها متناسياً فداحةَ مسؤوليّةٍ أتخلّى عنها..

ومن شدّة أنانيّتي، هجرتُ زوجةً طيبة، وولدين لم يعرفا بحضوري معنى للأبوّة والعطف..

لطالما راودتني رغبةُ التقصّي حول جارتي الجميلة، التودّد  إليها... فتكون لي صديقةً، في مكانٍ بدأ يستفزّني بخموده ووَحشته.

في أكثر من مرّة، وقفتُ أمام بابها، وأناملي تكاد تلامسه... لأعود أدراجي مسرعاً ، وأغوصَ في عتمة منزلي الجاثي على ضفّة حدودها.

لا أدري لمَ تعتريني قشعريرةٌ، ويضربني صقيعٌ عارمٌ، كلّما عبَرَت ذاكرتي... حتّى مع عويل الحَر واشتداد سطوته..!

ربّما أتعاطف مع ضعفها، أو أرى في ملامحها بعضاً من زوجةٍ تركتُها لقدرٍ مجهولٍ.. وارتحَلْتُ.

للأسف، لا ندرك بؤس قرارٍ اجترحناه، إلا بعد انقضاء أي وسيلةٍ لتخطّيه.

........

أرَقٌ فادحٌ صفعني في ليلةٍ مقمرة، لم أملك لمقاومته وسيلة.

ساعاتٍ قضيتها في محاولةٍ لرسم زيارةٍ، على بُعد خطوتين، اعتزمتُ القيام بها.. وكسرِ حواجزَ ممتدّة بين شيخوختي وصباها المتوهّج..

لم ينطق الصباح أولى كلماته... حتى رأيتُني بكامل أناقتي... أروح وأجيء... وأردّد عباراتٍ قضيتُ الليل في تشكيلها وبهرجتها، فتليق بأول لقاءٍ مع الحلم.

تمام الساعة التاسعة، وقفتُ أقرع باباً يُخفي بين جنباته حوريةَ أساطير الطفولة..

قرعتُ مراراً.. مِداداً... بهدأةٍ.. بشدّة... ولا من مجيب.

اضطربَ هذياني، وبعثرتُ شتائمَ عافَها لساني منذ شبابٍ وأكثر.

وعندما صرت على شفا الانكفاء...

طالعني شابٌ نحيل، بحوزته حقيبةٌ فوضويّة، محشوةٌ بفيض من أوراق وظروف ورسائل..

إنّه ساعي البريد.. سألني عنها.. 

وبعفويّةٍ، وخبثٍ، واستسلام.. أخبرته أنها قريبتي.. لكنّ أمراً طارئاً دعاها للغياب، ولن تعود إلّا بعد انقضاء زمن.

أعطاني ظرفاً محكم الإقفال، وغادر بهيكله الباذخ ضموراً..

وكأسدٍ انقضّ على فريسته، رحتُ بحشريّةٍ متأجّجة أمزّق غلافاً وأمعن قراءةَ بضع سطورٍ خطّتها يد رجلٍ على وشكِ الانهزام:

"إذا كنتِ مصرّةً على اقتحام حياة رجلٍ لم يعطنا من الأبوّة سوى الاسم، فلتنسَي أمّاً كابدَت.. وأخاً كان توأماً لروحك على امتداد طفولةٍ وشباب... غوصي في وهمك.. ولكن عند استيقاظكِ، ستعثرين على ذاتكِ مبعثرةً بين حقدِ وحيرة... هي آخر دعوةٍ للرجوع، لا لومَ بعدها إن فارقنا جموحكِ نحو الجحيم..."

صفَعني الزمن بغِلظَة... ترهّلَت قدماي، وغارت في الأرض حيث ارتميتُ جسداً ثقيلاً ونفساً معذّبة... تغطّيني ورقةٌ، فيها مرارةُ عمرٍ ووجعُ سنين..!

.......

الآن، وأنا على سرير المرض، أخطّ حكايتي بحبرٍ بائس، وشرارةُ ندمٍ تتغلغل بين مسام الكلمات.

أكتب اعترافي، وخطوطُ الزمن ترسم فوق الملامح خارطةَ طريق نحو الختام.

يا إلهي... كم أنا مُشوّه الروح، وكم أنتَ رفيقٌ وعظيم..

هي، ابنتي التي لم أمارس عليها أبوّتي...

هي، من تقف اليوم لترعى مرضي، وتحتضن شيخوختي...

هي، من تغدق عليّ حناناً بنكهة زوجةٍ منحَت قسوتي روحاً، ذاتَ لقاءٍ... وسلَبتُها الحياة

 

أخبار اخرى فى القسم