السبت 27 أبريل 2024 - 01:10 مساءً - القاهرة

     

 

 

               

 

  أحدث الأخبار

 

 

  الأكثر قراءة

 
 
 

ما أسباب تراجع الأغنية

  ازمة صوت

  ازمة كلمة

  ازمة لحن

  غياب دور الدولة في تبني أصوات جادة


نتائج

 

 
 

الرئيسية تقارير الدكتور عادل الفريجات يكتب عن : "زيارة عابرة " إضافة نوعية في أدب المرض

 

 
 

الدكتور عادل الفريجات يكتب عن : "زيارة عابرة " إضافة نوعية في أدب المرض

  السبت 16 مارس 2024 12:39 صباحاً    الكاتب : نأليف .. خديجة امتي




                               

 

 

 

 

 

 

تمتعت بقراءة كتاب الأديبة و الباحثة في العلوم الاجتماعية خديجة أمتي "زيارة عابرة" لأنه يتناول لحظات من قلق البشرية جمعاء في فرنسا و في غيرها من بلدان المولد و المغتربات، و لأن فيه رصدا لحالها و لحال الناس في العالم قاطبة, فقد ترتب على قرارات الحجر و منع التجول آثار و نتائج، و تكشفت أسرار و خفايا، و ظهرت معانيات و آلام. 

و أول ما بدا لي، و أنا أسعى لتقديم هذا الكتاب للقراء هو تصنيفه، و التصنيف عتبة أولى من عتبات التحليل و المعالجات، و هنا و جدته، بوصفه جائحة   مثل كورونا، كتابا ينتمي موضوعاتيا إلى أدب المرض الذي لنا أدباء و نماذج منه عديدة،  بحيث  حظي هذا الأدب باهتمام كتاب كثر كان منهم (جياني بوكاتشيو ( "في ديكاميرون"، و دانييل ديفو في كتابه مذكرات عن سنة الطاعون، و جوزي ساراماكو، حائز على جائزة نوبل في روايته "العمى"، و تعد رواية "الطاعون" لألبير كامو الفرنسي من أكثر تلك الأعمال شهرة ، و هي تتحدث عن وباء الكوليرا الذي اجتاح مدينة وهران سنة 1849، و لكن الكاتب جير هذه الحال لتكون موضوعه عن الاحتلال النازي لبلاده فرنسا.

 في العام 1947 نشرت الشاعرة العراقية نازك الملائكة قصيدتها المعروفة الكوليرا، وهي تتحدث عن آثار هذا الوباء في مصر. وبين الكوليرا والكورونا جناس ناقص لفظا ولكن الأثر السلبي جناس تام. فأعجب بذلك. وفي تلك القصيدة تقول الشاعرة:

اصغ إلى وقع صدى الأنات

في عمق الظلمة تحت الصمت على الأموات

صرخات تعلو، تضطرب

حزن يتدفق، يلتهب

يتعثر فيه صدى الآهات

في كل فؤاد غليان

في الكوخ الساكن أحزان

في كل مكان، روح تصرخ في الظلمات

ومن تراثنا نطالع ما كتبه المؤرخ السوري ابن الوردي عما فعله الطاعون في حلب التي اجتاحها عام 1349 م. ففيها كان يموت كل يوم 1000 شخص. ومما قاله شعرا:

ولست أخاف طاعونا كغيري         فما هو غير إحدى الحسنيين

فإن مت استرحت من الأعادي        و إن عشت اشتفت أذني و عيني

و توفي ابن الوردي بعد يومين من نظم هذه القصيدة.

و قصيدة المتنبي في الحمى معروفة مشهورة.

وبالعودة إلى كتاب خديجة أمتي، نجدها تعنونه "بزيارة عابرة" و هي الزيارة التي أورتثها عدوى المرض ذاته (الكورونا)، و ذلك مبسوط في نص هو أقرب ما يكون إلى قصة قصيرة جاذبة. وهو نص من أصل 28 نصا شملها الكتاب الذي استوقفني فيه العنوان الفرعي وهو "هلوسات من زمن الكوفيد 19". و التدقيق في هذا العنوان لا يفضي إلى المعنى المستخلص من الهلوسة، لأن نصوصه مصوغة بتدبر ووعي نادرين، و هي ثمرة تفاعل حي موضوعي ووجداني مع هذا الوباء الذي حبس الناس في بيوتهم، و خلف في أرواحهم قلقا مقيما. و ها هو ذا يقول، كما انطتقه الكاتبة :

" أنا وحدي أحكم العالم، هكذا تكلم الكوفيد 19، حاملا تاجه فوق رأسه و هو يتمدد بخيلاء عبر القارات، و يسكن تفاصيل حياتنا اليومية في عالم كافكي متحول " الكتاب . ص. ()

ويقع القارئ في الكتاب على رصد لكثير من آثار الحجر الصحي و منع التجوال، و على إشارات لعظمة فعل الأطقم الصحية في فرنسا و على نجاوى تبثها الكاتبة من خلال مصادفات وقعت لها. وبين هذا وذاك تلوح لنا ملامح من ثقافة الكاتبة التي تشير إلى "عالم كافكي" كما تشير إلى عالم "شبنهاوري" أيضا.

و كان لها، وهي المرأة العاشقة للقراءة وقفات قصيرة و خاطفة عند عناوين روايات وجدتها على رفوف مكتبات حرة، أمثال رواية "رقصة الوداع" لميلان كونديرا، و رواية الحرير لأكسندرو بريكو، و بين الجدران لبيكودو التي قرأتها الكاتبة ذات يوم. ورواية سان جورج لرشيد بوجدرة التي تدور حول تاريخ فرنسا الأسود في الجزائر، ورواية ساق البامبو للكويتي سعد السنعوسي، التي حللها كاتب هذه السطور ذات يوم تحليلا ضافيا.

و من هواجس الكاتبة خديجة أمتي، علاقتها مع الأحفاد الذين زاد اشياقها لهم و هي تلازم الحجر.

ومما بسطته لنا أيضا زيارة ابنتها الطبية لها بعد أن أصيبت بالوباء وذلك في نصها المعنون "بتجربة طبية". فقد فقدت كاتبتنا التي صارت ضحية من ضحايا هذا الوباء، حاسة الشم و حاسة الذوق و جاءها فريق طبي إلى بيتها لإخضاعها لتجربة طبية من أجل أن يستفيد منها مرضى الكوفيد و تنعكس عليهم نتائجها. فكان هذا ملمحا من ملامح التعامل مع المرض في فرنسا.

و لم يفت الكاتبة الالتفات لشريحة من الناس في باريس كانت تقتات في الظلام لما يسمى العمل بالأسود.  "فقد أصبحت هذه الشريحة عارية تحت أضواء الحجر الصحي الكاشفة، عارية من أي دخل يمكنها من تلبية حتى ذلك البند المسموح به، أي اقتناء حاجيات الضرورة الأولى".

هذه الفئات كما تقول الكاتبة: "غالبا ما يكون مأواها، إذا ما توفر عبارة عن بيت صغير مكون من غرفة، أستوديو، قد لا يتجاوز 10 أو 15 مترا مربعا. يتكدس فيه عدد كبير من الأشخاص أو أسرة متعددة الأفراد، انعدمت فيها معاني الراحة و الطمأنينة، لدرجة ينتفي فيها الحذ الأدنى من الكرامة الإنسانية". ص.()بيد أن زماننا الذي يمكن أن نسميه زمن الشابكة/النيت لا يمكن السلطات إلا نادرا، أن تغلق على المرء كل النوافذ. فنحن نعيش في شبه قرية كونية واحدة، ومن هنا، طالعنا نص يتحدث عن ثغرة في جدار الحجر المقيت، عنوانه: "باريس/مونتريال، نافذتان على جدار" و هما نافذتان كانتا بين كاتبتنا خديجة و صديقتها الكاتبة الروائية لطيفة حليم المقيمة بكندا، تبادلتا فيها الرسائل. وأقتبس هنا بعضا من رسالة موجهة إلى الصديقة في كندا:

" تسأليني عن أحوالي هنا في باريس في غربة اخترتها بديلا عن وطن أثخن الجراح. إنه زمن ثقيل من الفيروس نخرج بحذر، نتكلم بحذر، توجس و خوف يعثران سيرنا. لا نلتقي أحدا إلا ونبتعد عنه رعبا، رغم الكمامات التي أصبحت تحجب ابتسامة الأمل على شفاهنا، إنه الشك القاتل. كل شيء أصبح فاقدا للجاذبية, لم يعد للجمال معايير   و لم يعد للغد معنى، أصبح الغد أمنية نخشى إغلاق أعيننا خوفا من أن لانراه". ص. ()

وهذا وصف دقيق لما اعترى الأرواح هنا. فمن المآسي أن يبتعد المرء عن أخيه رعبا، وأن ينشب الشك في كل شيء. وأن يصبح الغد خاليا من المعنى و من التفاؤل و الثقة و السلامة.

ومما لفت انتباهي أن بعض نصوص هذا الكتاب كانت قصصا قصيرة، أو كالقصص القصيرة. ويمكن أن ينظر إليها من زاوية فن السرد الذي يصور ويمتع ويفيد.

ولولا الإطالة، لوقفت مثلا عند القصة التي منحت عنوانها عنوان الكتاب كله. أعني "زيارة عابرة". فقد حازت كثيرا من أركان القصة وسماتها وضوابطها. بيد أني و قد ولجت دنيا السرد و النقد، فإني استذكر معكم ما قاله الناقد الكبير ميخائيل نعيمة في مقال له و مفاده أن أي مؤرخ يكتب عن حياة الناس في الحروب، لن يتاح له كمال الكتابة عن حالات البشر المعيشة و معايناتهم دون أن يعود إلى ما كتبه تولستوي في روايته "الحرب و السلم". وعليه، فكثيرون ممن يرومون التأريخ لهذا الوباء (الكوفيد 19)، هم بحاجة للعودة إلى كتاب "زيارة عابرة"، هذا الذي نقف عنده. لأن فيه إشارات واضحة الدلالة على أحوال الناس والمجتمعات و الإدارات في باريس خاصة، و فرنسا عامة، في ذلك الزمن الأعجف الذي راح يلملم أذياله و يرحل بعيدا بعيدا.

وخلاصة القول، نحن إزاء كتاب هو ثمرة تفاعل حي مع جائحة أودت بحياة مئات الألوف من البشر. وقد قدم لنا بقلم سيال لا يعوقه التعبير عن أدق المشاعر الإنسانية، ولا يعجزه نسج عبارات ذات طابع كلي الكثافة ولا أداء يفصح عن مكنة واضحة وثقافة واسعة.

 

باريس في 10/03/2024

 



* أستاذ بجامعة دمشق سابقا

-ناقد ادبي. وباحث في التراث العربي،  

نشر ٢٤ كتابا في التراث العربي والأدب المعاصر، بعضها يدرس في جامعات عربية و فرنسية.

 

صور اخرى
 

أخبار اخرى فى القسم