السبت 11 مايو 2024 - 10:17 صباحاً - القاهرة

     

 

 

               

 

  أحدث الأخبار

 

 

  الأكثر قراءة

 
 
 

ما أسباب تراجع الأغنية

  ازمة صوت

  ازمة كلمة

  ازمة لحن

  غياب دور الدولة في تبني أصوات جادة


نتائج

 

 
 

الرئيسية تقارير أحمد كمال أبو المجد ..صاحب مقدمة "اولاد حارتنا" التي برأت نجيب محفوظ

 

 
 

أحمد كمال أبو المجد ..صاحب مقدمة "اولاد حارتنا" التي برأت نجيب محفوظ

  الخميس 04 أبريل 2019 04:12 مساءً    الكاتب : زينب عيسي




لم يكن الدكتور أحمد كمال ابو المجد الذي رحل عن عالمنا امس عن عمر ناهز 89 عامًا،تاركا  إرثًا من المؤلفات القانونية والإسلامية والمواقف السياسية  شاهدًا على عصور الثورات المصرية منذ 23 يوليو 1952 حتى 30 يونيو 2013، لكنه قد كان شاهدا علي قضية أدبية كبري نالت من الأديب الكبير نجيب محفوظ حين أصدر روايته "أولاد حارتنا" والتي أحدثت ضجه كبيرة وقت صدورها عام 1959 ومنعت من التداول بعد نشر فصول منها متسلسلة في جريدة "الاهرام"  ،بل جاءت شهادته علي الرواية في عام 2008 حين كتب مقدمتها كوثيقة تبرئ ساحه أديب نوبل من تهمة التطاول علي الذات الألهية .

.وكشف " أبو المجد" عن ظروف كتابته لمقدمة الرواية وقت أن عرضت عليه  دار الشروق الناشرة للرواية  ان تجعل"هذه الشهادة"مقدمة لرواية"اولاد حارتنا"قائلا: لم أتردد في قبول هذا الاقتراح ولكنني رأيت من الضروري ان اعيد قراءة هذه الشهادة، وأن اعيد قراءة"اولاد حارتنا"مرة اخرى، حتى استوثق من ان ما سطره القلم عام 1994 لا يزال - عند صاحبه على الأقل - صالحاً عام 2006، وأن ما شهدت به في شأن هذه الرواية التي احدثت في حياتنا الثقافية دوياً ظلت اصداؤه تتردد سنوات طويلة لا يزال موضع ايماني واقتناعي. فلما فعلت ذلك، بدا لي ان ليس عندي ما اضيفه او أغيره من سطور هذه الشهادة، اذ الأمر - في نهايته - يدور حول قضيتين لم يتحول فكري ولم يتغير في شأنهم ان من اصول النقد الأدبي التمييز الواجب بين الكتاب الذي يعرض فيه الكاتب فكرته ويحدد مواقفه، ملتزماً - في ذلك - بالحقائق التاريخية، والوقائع الثابتة، دون افتئات عليها، ودون مداراة لما يراه في شأنها... وبين الرواية التي قد يلجأ صاحبها الى الرمز والإشارة، وقد يدخل فيها الخيال الى جانب الحقيقة العلمية،حرية التعبير والموقف منها، ذلك انه مع التسليم بأن الحريات جميعها انما تمارس في جماعة منظمة، ولذلك لا يتأبى منها على التنظيم والتعبير إلا حرية واحدة هي حرية"الفكر والاعتقاد"بحسبانهما امراً داخلياً يسأل عنه صاحبه امام خالقه، دون تدخل من أحد

وفي السطور التالية المقدمة التي كتبها المفكر الراحل أحمد كمال أبو المجد:

نص الشهادة

 حين وقع الاعتداء الغادر على اديب مصر وكاتبها الكبير نجيب محفوظ، كنت خارج مصر وحين عدت إليها طلبت من الصديق الأستاذ محمد سلماوي، وهو من تلامذته المقربين، ان يصحبني إليه لنؤدي واجب الاطمئنان عليه... ولكنه - وسط شواغله الثقافية - تأخر في ترتيب تلك الزيارة حتى عاد الأستاذ نجيب محفوظ الى بيته قبل ايام من عيد ميلاده الذي شاركه في الاحتفال به كثيرون من محبيه ومقدريه. وإذا بالأستاذ سلماوي يتصل بي ليخبرني انه رتب للزيارة موعداً في الخامسة من مساء اليوم التالي، وأننا سنذهب في صحبته ومعنا المهندس ابراهيم المعلم، الذي تربطه ووالده بالأستاذ نجيب محفوظ علاقات ود قديمة وموصولة، ومعنا كذلك الإذاعي والإعلامي المخضرم احمد فراج.

وعلى باب نجيب محفوظ استقبلتنا بالحفاوة المصرية المعهودة السيدة الفاضلة زوجته، ثم جاء الأستاذ نجيب محفوظ في خطوات ثابتة طمأنتنا على قرب اكتمال شفائه، وأخذ يرحب بنا في ود شديد، ثم جلس بيننا. وسادت فترة من صمت قصير، لأن احداً منا لم يعد لهذا اللقاء اكثر من كلمات السؤال عن الصحة والتهنئة بعيد الميلاد, ثم بدا لي على غير ترتيب ولا إعداد، ان اقطع هذا الصمت، فوجدتني اقول: يا أستاذ نجيب، الجالسون معك الليلة كلهم من قرائك، جيلنا كان يجد في كتاباتك ورواياتك شيئاً بين فن الأدب وفن التصوير، وذلك بما نسجته في وصف القاهرة وحياة اهلها، ونماذجهم المختلفة من وشى دقيق عامر بالألوان مليء بالتفاصيل، حتى ليكاد القارئ يسمع فيه اصوات الناس ويرى وجوههم، ويتابع حركتهم في شوارع القاهرة وأزقتها ومساجدها ومقاهيها، ويكاد - دون ان يشعر - يدخل طرفاً في علاقات بعضهم ببعض... وكم من مرة تعرف بعضنا على احياء القاهرة وشوارعها بما كان قرأه عنك في وصفها وتصوير حياة اهلها... وأضفت: ثم انك يا استاذ نجيب تظل - في خواطرنا - قبل كل شيء وبعد كل شيء كاتباً وأديباً مصرياً خالصاً، لم تدجن كتاباته وآراؤه بتأثيرات غريبة تنال من نكهتها المصرية ومذاقها العربي الأصيل.

 

وبدا من قسمات وجه الأستاذ نجيب محفوظ وحركة يديه انه يقبل هذا الوصف له ولكتاباته وأنه يرتاح إليه... فشجعني ذلك على ان اتقدم في الحوار خطوة اخرى، فقلت: ويبقى ان نسألك عن رأي عبرت عنه منذ اسابيع قليلة حين بعثت برسالة وجيزة الى الندوة التي نظمتها الأهرام تحت عنوان"نحو مشروع حضاري عربي"، فقد قلت للمشاركين في الندوة: ان أي مشروع حضاري عربي لا بد ان يقوم على الإسلام، وعلى العلم، ولقد وصلت رسالتك، على قصرها، واضحة وصريحة ومستقيمة لا تحتمل التأويل، ولكن يبقى - ونحن معك نسمع لك وننقل عنك ? ان نزيد هذا الأمر تفصيلاً، نحتاج جميعاً إليه وسط المبارزات الكلامية التي يجري فيها - ما يستحق الحزن والأسف - من ألوان تحريف الكلام وتزييف الآراء والافتئات على اصحابها.

 

وفي حماسة شديدة، وصوت جهير ونبرة قاطعة، انطلق نجيب محفوظ يقول: وهل في تلك الرسالة جديد؟ ان اهل مصر الذين ادركناهم وعشنا معهم، والذين تحدثت عنهم في كتاباتي كانوا يعيشون بالإسلام، ويمارسون قيمه العليا، دون ضجيج ولا كلام كثير. وكانت اصالتهم تعني هذا كله، ولقد كانت السماحة وصدق الكلمة وشجاعة الرأي وأمانة الموقف ودفء العلاقات بين الناس، هي تعبير اهل مصر الواضح عن إسلامهم... ولكنني في كلمتي الى الندوة اضفت ضرورة الأخذ بالعلم، لأن أي شعب لا يأخذ بالعلم ولا يدير اموره كلها على اساسه لا يمكن ان يكون له مستقبل بين الشعوب. ان كتاباتي كلها، القديم منها والجديد، تتمسك بهذين المحورين: الإسلام الذي هو منبع قيم الخير في امتنا، والعلم الذي هو أداة التقدم والنهضة في حاضرنا ومستقبلنا.

وأحب ان اقول: انه حتى رواية"اولاد حارتنا"التي اساء البعض فهمها لم تخرج عن هذه الرؤية. ولقد كان المغزى الكبير الذي توجت به احداثها، ان الناس حين تخلوا عن الدين ممثلاً في"الجبلاوي"، وتصوروا انهم يستطيعون بالعلم وحده ممثلاً في"عرفة"ان يديروا حياتهم على ارضهم التي هي حارتنا، اكتشفوا ان العلم بغير الدين تحول الى اداة شر، وأنه قد أسلمهم الى استبداد الحاكم وسلبهم حريتهم، فعادوا من جديد يبحثون عن"الجبلاوي". وأضاف: ان مشكلة"اولاد حارتنا"منذ البداية انني كتبتها"رواية"، وقرأها بعض الناس"كتاباً"، والرواية تركيب ادبي فيه الحقيقة وفيه الرمز، وفيه الواقع وفيه الخيال... ولا بأس بهذا ابداً... ولا يجوز ان تحاكم"الرواية"الى حقائق التاريخ التي يؤمن الكاتب بها، لأن كاتبها باختيار هذه الصيغة الأدبية لم يلزم نفسه بهذا اصلاً وهو يعبر عن رأيه في رواية. وفي ثقافتنا امثلة كثيرة لهذا اللون من الكتابة، ويكفي ان نذكر منها كتاب"كليلة ودمنة"، فهو مثلاً يتحدث عن الحاكم، ويطلق عليه وصف"الأسد"ولكنه بعد ذلك يدير كتابته كلها داخل اطار مملكة الغابة وأشخاصها المستمدة من دنيا الحيوان، منتهياً بالقارئ في آخر المطاف الى العبرة او الحكمة التي يجريها على ألسنة الطير والحيوان، وهذا هو الهدف الحقيقي الذي يتوجه إليه كل كاتب صاحب رأي... اياً كانت الصيغة التي يمارس بها كتاباته.

قلت: الواقع انني قرأت"اولاد حارتنا"منذ سنوات عدة، وأذكر انني تعاملت معها حينذاك على انها رواية وليست كتاباً، ولذلك تفهمت ما امتلأت به من رموز تداخل في صياغتها الخيال، ولم أتصور ابداً ان كاتبها كان بهذا التداخل يحاول رسم صور تعبر عن موقفه من الحقائق التي يتناولها ذلك الخيال او تشير إليها تلك الرموز. ولكن الذي استقر في خاطري على أي حال وبقي في ذاكرتي منها الى يومنا هذا، والذي رأيته - معبراً عن موقف كاتبها الذي يريد ايصاله الى قرائه - هو تتويح حلقات روايته الرمزية بإعلان واضح عن حاجة"الحارة"، التي ترمز للمجتمع الإنساني، الى الدين وقيمه التي عبر عنها الرمز المجرد الجبلاوي حتى وإن تصور اهل الحارة غير ذلك وهم معجبون ومفتونون بـپ"عرفة"الذي يرمز الى سلطان العلم المجرد والمنفصل عن القيم الهادية والموجهة لأهل الحارة.

وتابع الأستاذ نجيب حديثه الأول قائلاً:

انني حريص دائماً على ان تقع كتاباتي في الموقع الصحيح لدى الناس، حتى وإن اختلف بعضهم معي في الرأي، ولذلك لما تبينت ان الخلط بين"الرواية"وپ"الكتاب"قد وقع فعلاً عند بعض الناس، وأنه احدث ما أحدث من سوء فهم، اشترطت ألا يعاد نشرها إلا بعد ان يوافق الأزهر على هذا النشر، ولا يزال هذا موقفي الى الآن.

قلت: انني أتمنى - يا أستاذ نجيب - ان يسمع الناس منك هذا الكلام الواضح الذي لا يحتمل التأويل، ليعرفوك منك بدلاً من ان يعرفوك من خلال شروح الآخرين، وائذن لي ان اقول انني كنت واحداً من الذي يجدون هذه المعاني التي حدثتنا بها الآن حاضرة في ثنايا كثير من كتاباتك القديمة والجديدة، وكانت تعبيراً دقيقاً عن منهج جيلنا وجيل آبائنا في فهم الإسلام، فقد كانوا - وكنا معهم - نتنفس الإسلام ونحيا به في هدوء واطمئنان، دون ان نملأ مجالسنا ومجالس الآخرين بالكلام الكثير عنه.

وحين اوشكت الزيارة ان تتحول بهذا الحوار العفوي الى ندوة، تدخل الأستاذ احمد فراج قائلاً في حماسة: كم كنت اتمنى ان يسمع الناس - كل الناس - هذا الحوار الهادئ حول هذه القضايا الساخنة. وأرجو ان يأذن لي الأستاذ نجيب محفوظ بتسجيل هذا الكلام كله مرة اخرى في ندوة تلفزيونية قصيرة لا تتجاوز الدقائق العشر، توضع بها النقاط على الحروف، ويعرف الناس، الموافق منهم والمخالف، حقيقة رأي الأستاذ نجيب محفوظ الذي عبر عنه الآن، كما عبرت عنه رسالته الوجيزة الى ندوة الأهرام.

قال الأستاذ نجيب محفوظ: اني شاكر ومقدر هذا الاهتمام، ولكنني اشفق على نفسي من فتح باب الأحاديث التلفزيونية، وأنا لا ازال في نقاهة لا تحتمل مثل هذا المجهود، ولكنني - بدلاً من هذا - أقترح ان يكتب الدكتور كمال ابو المجد هذا الحوار الذي دار كما دار - وسأكون راضياً عن ذلك كل الرضا.

وفي اطار هذه الرغبة الموثقة بإذن صريح من الأستاذ نجيب محفوظ وبشهادة ثلاثة من ضيوفه الكرام، ولدت فكرة هذا المقال الذي هو عندي شهادة ارجو ان أدرأ بها عن كتابات نجيب محفوظ سوء فهم الذين يتعجلون الأحكام ويتسرعون في الاتهام، وينسون ان الإسلام نفسه أدرج كثيراً من الظنون السيئة فيما دعا الى اجتنابه من آثام، كما أدرأ عن تلك الكتابات الصنيع القبيح الذي يصر به بعض الكتّاب على ان يقرأوا في ادب نجيب محفوظ ما يدور في رؤوسهم هم من افكار، وما يتمنون ان يجدوه في تلك الكتابات، مانحين انفسهم قوامة لا يملكها احد على احد، فضلاً عن ان يملكها احد منهم على كاتب له في دنيا الكتابة والأدب ما لنجيب محفوظ من القدم الثابتة، والتجربة الغنية، والموهبة الفذة النادرة التي انعم بها عليه الله.

أدعو الله ان يتم على اديبنا الكبير نعمة العافية حتى يمسك القلم من جديد مواصلاً عطاءه الأدبي الذي يغني العقل والوجدان، وواهباً ما بقي من عمره المديد - بإذن الله - لتجلية الأمرين العظيمين اللذين اشار إليهما في رسالته الى ندوة الأهرام: الدين، الذي به هداية الناس وراحة النفوس، والذي يفيء ألواناً من المحبة والسماحة ودفء العلاقات والتسابق الى الخير، على حارتنا الكبيرة مصر، والعلم، الذي تحيا به العقول، والذي هو مفتاح امتنا، وكل امة، الى ابواب المستقبل الذي تتزاحم اليوم امامها شعوب الدنيا كلها لتكون لها مكانة في ساحته التي تتشكل معالمها الجديدة يوماً بعد يوم.

 

أخبار اخرى فى القسم