الاثنين 29 أبريل 2024 - 03:30 صباحاً - القاهرة

     

 

 

               

 

  أحدث الأخبار

 

 

  الأكثر قراءة

 
 
 

ما أسباب تراجع الأغنية

  ازمة صوت

  ازمة كلمة

  ازمة لحن

  غياب دور الدولة في تبني أصوات جادة


نتائج

 

 
 
 

لقطات


د . محمود نسيم
الأحد 31 مارس 2019 03:21:39 صباحاً



""

 

المشهد الشعرى الراهن: رؤيتان وناقدان

أحاول هنا فى تلك الكنابة المجملة قراءة المشهد الشعرى فى لحظته الراهنة، عبر رؤيتين مختلفتين لناقدين كبيرين رصد كل منهما تحولات الشعرية العربية ومساراتها المركبة فى زمنين متعاقبين ، بحيث نتبين بمجرد الرصد المجمل تحولات النسق والسياق فى حركة القصيدة العربية0

.........................

في تساؤله الذى استهدف استشراف حركة الشعر العربى ومساراته المقبلة، كتب "غالى شكرى" فى كتابه "شعرنا العربي الحديث.. إلى أين؟" الصادر بعد انتصاف الستينيات من القرن الماضى، كتب متخذا من التساؤل عنوانا ومادة استكشافية، راصدا تفاعل القصيدة مع لحظتها التاريخية، متأملا صياغات الشاعر الحديث ورؤاه المتحولة لعالم تنصهر فيه الجماعة مع التعبير الرمزي لإرادتها الجمعية متمثلا في نموذج الدولة الفوقية والحاكم الأب.

كان الشاعر منغمرا في سياق تحول تاريخى ليس فقط على مستوى تغير الأنظمة الحاكمة وإنما على مستوى أعمق يشمل البنيات الاجتماعية المتغيرة، وطرح الجماعة القومية لذاتها كجماعة ثابتة فى التاريخ، وموحدة فى الإرادة، ومتجانسة فى الواقع،  ومن هنا يغدو طبيعيا أن يتمثل الشاعر صوتا كليا، يدل في واحد من تجسداته على ذات متنبأة ومبشرة وعارفة هي صاحبة الخطاب الشعري ومرسلة الرؤية، ويشير في تجسد ثان إلى جماعة موحدة متلقية ومستقبلة.

هذه العلاقة الخطية بين الشاعر والقارئ كانت تعكس على المستوى النقدى والتصور المعرفى علاقة خطية أخرى بين الظاهرة الفنية وشروطها الاجتماعية، كانت القصيدة انعكاسا لذات هي بدورها انعكاسا لواقع، وكانت المرحلة كلها تشكلها مرايا عاكسة تنتج صورا كلية وتشيعها في وعي الأفراد والجماعات وتدرجهم جميعا في وحدة متوهمة تخفى التناقضات تحت وهج لغوى وقومى كثيف، وتعبر الصراعات وتطمسها بإرادة فوقية جاثمة.

هكذا، استعارت القصيدة أقنعة تاريخية وكونت مسافة بين ذات الشاعر وصورة القناع، واصطنعت رموزا وإشارات خاصة من التاريخ الهامشي لتحيل بها إلى الآنى والراهن، وكان التقابل بين الشخصيات الهامشية القادمة من غبار التاريخ، المنسحقة تحت وطأة صراعاته ومواريثه الدامية، تلك التي تستحضرها القصيدة "الحلاج، مهيار، أبوذر الغفاري، وغيرهم" وبين سطوع الشخصيات الماثلة في الحاضر والصانعة تحولاته، تلك التي يكتب الشاعر تحت توهجها ومواكبها السارية، كان هذا التقابل يشكل عملية تحويل رمزية يلجأ عبرها الشاعر بذاته المفككة محتميا بالتاريخ، ثم يتصل معها بذاته المبشرة مندرجا في الواقع.

وعلى مستوى البناءات المعرفية، كان العالم متوزعا بين ثنائيات غير محلولة هي ذاتها ثنائيات النص المتضادة، بين الكلمة والفعل، العالم القائم والعالم الضد، الجماعة المهيمنة والجماعة المهمشة، الذات المتضادة والذات المتطابقة، وغير ذلك من ثنائيات شاعت في كتابة الستينيات خاصة في الشعر والمسرح. وقطعا، لم تكن تلك التصورات ماثلة في ذهن الناقد وهو يتساءل عن المسارات المتوقعة ويسعى إلى تتبع حركة رأس السهم في الشعر العربي، ولكنها كانت، كما أظن، تتخلل السياق المعرفى الذى كان يكتب فيه غالي شكرى.

إن أفق القصيدة القديمةكما تصوره الناقد يتحرك من منظور حداثى واقعي، فرؤيته الحداثية تنقض ثبات الأشكال القديم والتصنيفات المحافظة التى كانت تحدد الشعر استنادا إلى الوزن واللغة، فتلغى بذلك القصيدتين: النثرية والعامية، وتقصيهما في ركن ذاوٍمن المشهد، ولكن الناقد ـ مستجيبا لتغيرات عميقة في البناءات الاجتماعية والأشكال الإبداعية ـ يدرج القصيدتين " العامية ـ النثرية " في السياق الأساسي لحركة الشعر، ويحتفى باكتشافاتهما اللغوية والصورية غائصا في عوالم شعرائها ونماذجها الدالة، وهكذا ينقض الناقد نظرية الشكل الواحد التي طالما هيمنت على التصور النقدي والممارسة الشعرية خروجا إلى الأشكال المتعددة والأفق المفتوح. أما رؤيته الواقعية فتتمثل في ربطه بين تلك الأشكال وسياقها الاجتماعي من منظور انعكاسى يرى أن تولد البناءات الفنية عن واقع اجتماعي هو مصدر لها لا يكفي بذاته لتفسيرها، هذه الحداثة التى ترصد انكسار النموذج الرومانسى مبشرة بالنموذج الواقعى هي جوهر تصور الناقد ومدار كتابته، ولذلك يحتل مفهوم التجاوز مركزا أساسيا، فالناقد ـ اجتماعيا ـ يتحرك بين مرحلتين ـ وجماليا ـ بين نموذجين، وهو لا يقبل بتجاور الأشكال وإنما يريد انقطاعا عن أشكال ورؤى سابقة استيلادا لأخرى جديدة فيرفض تراجع نازك الملائكة أو ما يسميه رواسب الحس الكلاسيكي، فحين تكتب الشاعرة قصيدة بالشكل العمودي مبررة ذلك بأن تجربة القصيدة تفرض شكلها، فإن الدكتور غالي يعتبر ذلك تبريرا باليا، فالشكل الشعرى بمفهومه الحداثي انقطاع وتجاوز وتخطٍ داخل ما يسميه المفهوم الحضارى للحداثة، وهو مفهوم غائم إطلاقى يلقى ـ والزمن هو الستينيات ـ بغطاء الثورة ولغتها على التصور الفكرى، يقول: "عندما نقول إن الحداثة في الشعر هي مفهوم حضارى، فإن هذا التعبير يعنى جملة أشياء.. يعنى أولا، أن هذا الشعر هو الصياغة الجمالية الصحيحة للإنسان العربي الحديث، لا في همومه العاطفية، أو احتياجاته الاجتماعية أو أزماته النفسية، وإنما في ثورته الحضارية المعاصرة، وهو يعنى ـ ثانيا ـ أن هذا الشعر هو أحد مقومات الحضارة العربية الحديثة، وليس وجها سياسيا أو لافتة أيديولوجية، ولكنه العنصر الجمالى الذي يتسق مع مسار هذه الحضارة ولا يشذ عنها... ومن ثم ينبغي أن يتوجه تقييم هذا الشعر إلى عملية التفاعل بين الإنسان العربي وحضارته في داخل القصيدة".

لست أستهدف بهذا الاقتباس النصى أن أعرض للأفكار الواردة في كتاب الدكتور غالى ولا التداخل مع تصوراته النظرية وتحليلاته النقدية، ولكنى ألاحظ فقط لهجة اليقين الغالبة على طرح الناقد الذي يربط بين القصيدة والشاعر والثورة والحضارة في جمل متتابعة مطلقة، وأتوقف قليلا أمام عبارته الذاهبة إلى أن الشعر هو الصياغة الصحيحة للإنسان في ثورته، وأراها دالة ليس فقط على كاتبها وإنما على زمنها الذى كانت الجماعة المتجانسة تتصدر مشهده في نشيد حماسى، والذات المندرجة في وحدة الجماعة لا المنفصلة عنها تتخلل سياقه، والقصيدة المعبرة جماليا عن فعله التغييرى هى وحدها الحداثية. أتوقف عند تلك اللقطة الأولى المنعكسة من مرايا ناقد يؤسس للمنظور الحداثى الواقعى، المنتج للتجانس في الجماعة والوحدة في القصيدة والتجاوز في الحركة والتغير في التاريخ، لأنتقل إلى لقطة ثانية تتخطى ما يقارب الثلاثين عاما في قفزة زمنية خاطفة، لنرصد ليس فقط تغير القصيدة وإنما تبدلات الواقع والموقع، وتحولات الناقد والشاعر معا.

في دراسة حديثة نسبيا، استهدف فيها رصد الجمالىيت المتغيرة وتأمل القصيدة في لحظتها الراهنة، قام الدكتور"كمال أبو ديب" بمراجعة أولية للمفاهيم النقدية والتصورات الفكرية التي شكلت ما أسماه "الانفجار الحداثي" معبرا عن موقف متشكك بل ورافض للجماليات التى تحركت فيها القصيدة وهي تؤسس حداثتها التشكيلية ورؤاها المغايرة، وكان من أبرز المشكلات التى  واجهها جدوى الجمالىيت النابعة من مفهوم الوحدة والخيال الانصهارى الذى دخل في جوهر تصورنا لا إلى طبيعة العمل الإبداعى وحسب بل وظيفة الفن في الوجود الإنسانى أيضا، وتحول بذلك إلى مصدر اسمى للقيمة، وكما يرى الناقد ويعبر، فحين نتأمل الكتابة العربية المعاصرة نكتشف أن أحد أهم المفاهيم التى لعبت دورا أساسيا فى مختلف مراحلها كان مفهوم الوحدة بصيغه المختلفة، يراجع الدكتور أبو ديب مفهوم الوحدة والانصهار والتركيب الكلى، ويرصد علاقات شعرية وجماليات مختلفة قائمة على التجاور لا التداخل ، مبنية على التراكم لا الوحدة، وتتضمن جماليات المجاورة ما يسميه الناقد جماليات اللقطة وجماليات اللفتة، أما الأولى، فانها تتمثل فى نمط من التناول الشعرى يحل العين محل الأنا تماما، وتعتبر اللقطة البصرية تكوينا جماليا مكتفيا بذاته فى غنى عن استدخال الذات المحللة أو المعلقة أو المنفعلة، ويرى الناقد في إجمال دال أن "لا يكاد شيء في الشعر الحديث يكون قادرا على تجسيد التحولات العميقة بقدر ما تقدر التحولات التى طرأت على أقانيم أربعة من أقانيم الحداثة، تلك هي ـ تحولات المرأة ومصائرها، تحولات الأنا، تحولات عالم العقائيديات الكبرى والمشروعات الجماعية للتغيير وابتكار عالم جديد، تحولات بنية النص وتشكيله الزمنى".

وهكذا ـ ابتداء من تلك التحديدات المجملة ـ يرصد الناقد ويحلل بعض الظواهر التى يراها تجسد الشعرية الجديدة وتؤشر على فعلها الراهن، مثل موت الانفعالية وحلول العين محل الذات، وشعر اللقطة وجماليات التراكم والتجاور، وغير ذلك من تجسدات تشكل عالم القصيدة الراهنة.

وكما أشرت في فقرة سابقة، فلست أستهدف التداخل مع التصورات الحاكمة لعمل الناقد، ولكنى فقط أرصد اللقطة الأولى بزمنها الستينى، حيث سعى الشاعر والناقد إلى تأسيس حداثة تغييرية محتفية بالرؤى المغايرة ونسيجها الاجتماعى، فكان محور التناول النقدى هو الوحدة في القصيدة والإرادة الفاعلة في الواقع، كما أرصد اللقطة الثانية وزمنها التسعينى، الذي يؤسس لكتابة تغيب فيها الذات وتحل العين، ويتحول الواقع إلى مجرد لقطة ترصدها عين عابرة، وتختفى الوحدة بعناصرها الممتزجة ونسيجها الجامع، وتخلى مكانها لعناصر متجاورة على سطح الصفحة وعلاقات لغوية متراكمة تكشف حسية منسحقة وجسدية نافرة وغائبة0